مسرح القسوة

لم يكن عسيرا على مؤرخين من طراز ديورانت أو توينبي أو جيبون وهو الذي أرخ لسقوط الامبراطورية الرومانية أن يرصدوا المرات التي توحش فيها التاريخ، وهي عديدة، وان كانت المآذن الذي بناها هولاكو من جماجم الناس واحدة منها، لكن القرن العشرين الذي وصف بأنه أقصر القرون من حيث الزمن لأنه بدأ مع الحرب العالمية الاولى وانتهى مع الحرب الباردة، كان أطولها بمقياس التوحش، حتى أن هناك ما يشبه الاجماع على أنه القرن الدموي بامتياز، وواقعنا العربي الذي لم يعرف غير القسوة مسرحاً لأحداثه يذكرنا بذلك المسرح العنيف الذي أسسه وأصدر بيانه الاول انطونين أرتو، وهو أشبه بالمصارعة الحرة اذا قورن بالمسارح الاخرى الاقل قسوة.. قبل أقل من شهر شهد العرب والعالم ومنه أطفالنا المهددون بمستقبل بالغ التوحش والقسوة لفرط ما شاهدوا وسمعوا رجلاً في ليبيا يقف أمام الكاميرا ويشهر في الهواء قلباً منزوعاً من صدر عدوه، وكان أشبه بالعودة التاريخية، يقابله على الفور رجل آخر يقتل رجالاً ونساء وأطفالاً، وعلى الشاشة ذاتها عرضت امرأة وهي تصرخ أمام الكاميرات بأن كتيبة من الرجال اغتصبوها تباعاً!
وليس مهما الآن فحص دوافع هذا المسرح العنيف، أو التحقق من صدقية الوقائع، فالأهم أنها عرضت على الشاشات تماماً مثلما عُرض ذات عيد أضحى وأثناء صلاة الفجر رئيس يشنق ويتدلى من حبل غليظ بحيث كان الاطفال ينظرون مشدوهين الى ذلك الرجل ويحدقون في عيون آبائهم الذين كانوا يهتفون له قبل عام أو اقل، والذين كانوا يزهون على اقاربهم وجيرانهم بصور التقطت لهم بجواره أو على بعد خمسين متراً منه.
ما شاهده وسمعه أطفال العرب خلال العقدين الماضيين يهدد تكوينهم النفسي ويدفعهم بقوة الى مسرح القسوة بحيث تصبح ثقافة الانتقام والتنكيل المتبادل والثأرية المبالغ فيها هي السائدة ويكفي في هذا السياق أن أذكر مثالاً عن تلاميذ المدارس في بلد عربي كانوا يسمعون طيلة الوقت من وسائل الاعلام في بلادهم أن الزعيم فلان.. عميل وخائن، وما أن حدثت مصالحة مفاجئة بين بلدهم وبلد ذلك الزعيم حتى استدار الاعلام مئة وثمانين درجة وحين طلب من هؤلاء التلاميذ أن يصطفوا في طوابير على طريق المطار لاستقبال ذلك الزعيم رددوا معاً وبلا وعي..
يعيش العميل فلان...
لأن ما علق بذاكرتهم وألسنتهم لم يكن من السهل حذفه خلال أيام..
وأحياناً تفصل أيام أو اسابيع أو شهور فقط بين التصفيق لزعيم وشنقه أو اقتياده الى زنزانة، ومن كان يوصف بأنه صلاح الدين الايوبي يوصف بعد ذلك بأنه أسوأ من ابن العلقمي، ومن كان يُرجم بالورد يُرجم بعد ذلك بالنعال أو الحجارة.. كم هُمْ مساكين أطفال العرب، لكن الفائدة الوحيدة التي يجنونها من هذه المشاهد السوريالية، هي فهمهم لماذا كان الأجداد القدامى يضعون آلهة من تمر ومن ثم يأكلونها!.
انه مسرح القسوة الذي لم يحلم بمثله آرتو الفرنسي، وان كان الآن في الهواء الطلق، ومشاهدته بالمجان!!.(الدستور)