فاصل قصير ونعود بعده لمتابعة أخبار «الملحمة»

أخيراً، أصبح بمقدور رئيس أمريكي أن يظهر للملأ، وأن يعلن من دون تردد أو تلعثم، بأن الولايات المتحدة نجحت في قتل “أسامة بن لادن”، الرجل المطارد منذ عقد ونصف العقد من الزمان، حيث تعاقب ثلاثة رؤساء أمريكيين على مطاردة الرجل، وبكل الوسائل والأسلحة المتاحة، إلى أن حصل ما كان منتظراً، ووضعت الأجهزة الأمريكية يدها على جثة الرجل، الذي كان مطلوبا القبض عليه ميتاً أو ميتاً فقط، فمن يريد أن يجلب لنفسه “وجع رأس” دائم من المحاكمات والتداعيات والسجون وردات الفعل.
ثمة تفاصيل كثيرة، سنحتاج لمعرفتها، وربما تمضي أشهر وسنوات، قبل أن نعرف حقيقة ما جرى، هذا إن عرفنا الحقيقة كاملة، عن دور المخابرات الباكستانية ونظام كابول وغيرهما من الأطراف ذات الصلة...لكننا نعرف الآن أن “ابن لادن” خرج “فيزيائياً/جسدياً” من حلبة المواجهة، وهو الذي خرج منها معنوياً وعملياً، منذ سنوات...نعرف أن إدارة أوباما المفتقرة للنجاحات والانتصارات، ستعمل على تضيخم العملية وتصويرها كأكبر انتصار في الحرب على الإرهاب، كما قال الرئيس الأمريكي نفسه...ونعرف أيضاً ان المخابرات الباكستانية، صاحبة اليد العليا في هذه العملية، ستعمل على التقليل من أهمية دورها، وتصويره كدور متواضع، أو حتى غير موجود، حتى لا تدفع الباكستان ثمن العملية الأمريكية وردات فعل القاعدة وانتقام خلاياها النائمة واليقظة، فضلاً عن التصرفات غير المحسوب حسابها، لأصدقاء القاعدة ونظرائها و”استنساخاتها”.
أياً يكن من أمر، فإن وصول يد المخابرات الأمريكية لزعيم القاعدة، ونجاحها في تصفيته في مأمنه، هو نجاح معنوي كبير لها، وهزيمة معنوية كبيرة للقاعدة التي فقدت مؤسسها وزعيمها وأباها الروحي وقائدها الملهم...ونشدد على الطابع المعنوي الجوهري، لنصر واشنطن وهزيمة القاعدة، على حد سواء...فالأمر الذي لا يجوز أن يغيب عن أذهاننا، أن القاعدة ومنذ سنوات عدة، تعمل واقعياً من دون ابن لادن، فالرجل منفصل عن تنظيمه وظروف العمل “تحت الأرض”، تجعل حضوره كغيابه، من حيث “القيادة والإدارة والتوجيه والعمليات” إلى غير ما هنالك.
ستكون هناك محاولات للثأر والانتقام، وهذا ما دفع واشنطن وأصدقاءها، بخاصة في الباكستان وأفغانستان والعراق، لرفع درجة اليقظة والاستنفار...ولكن قدرة القاعدة على تنفيذ عمليات نوعية ذات أثر مزلزل كما حصل في الحادي عشر من سبتبمر، تراجعت كثيراً، ولم يسجل للقاعدة منذ سنوات أنها نجحت في تنفيذ عملية نوعية في أية ساحة من الساحات.
ولن تكون هناك مظاهر تعاطف شعبية واسعة مع القاعدة وزعيمها الراحل...فالزمن الذي كانت فيه القاعدة، تحظى بتعاطف وتأييد قطاعات شعبية واسعة، ولّى وإلى الأبد...والقاعدة خسرت تعاطف المواطنين في المجتمعات العربية والإسلامية، أولاً، لأنهم كانوا ضحايا العمليات العشوائية التي لا تميز بيد مدني وعسكري، مسلم وغير مسلم، مذنب وبريء..وثانياً، لأن معظم الدول العربية تشهد ثورات كرامة وحرية وديمقراطية وسيادة، تقف القاعدة فيها على الطرف الآخر من خندق الجماهير والشعوب...ولم يعد “نموذج” القاعدة، بما يمثل ومن يمثل، نموذجاً ملهماً للناس.
لو أن مصرع ابن لادن جاء قبل سنوات، لكانت ردات الفعل العربية والإسلامية مغايرة تماماً...اليوم سيغادر الرجل هذه الدنيا التي ملأها صخباً وضجيجاً، من دون أن يثير أية جلبة أو حراكا...أنصاره في مصر وتونس واليمن تائهون في بحور “ساحة التغيير” و”ميدان التحرير” و”شارع الحبيب بورقيبة”...وأنصاره في بقية الدول العربية، تحاصرهم الهتافات المنادية بـ”الشعب يريد إنهاء الانقسام”...لا أحد سيغادر مواقع الانتفاضة والثورة على الفساد والاستبداد، ليعود إلى “الأقبية والكهوف المظلمة”...لا أحد ممن تذوّقوا طعم الحرية والانتصار، وتلمّسوا “مزايا” النضال الديمقراطي السلمي، سيعود إلى امتشاق السيوف والأحزمة الناسفة.
هي أيام قليلة، ستمطرنا خلالها الفضائيات بوابل من التصريحات “الممطوطة” والتحليلات “المتثاقلة” التي ستتناول الحدث، وبعدها يصبح أسامة بن لادن، أثراً بعد عين.
وفصل دام آخر من تاريخ هذه المنطقة... التي تدخل حقبة تاريخية جديدة، بطلها الشارع العربي على اتساعه، الذي سطّر ملاحم من الشجاعة والبسالة، لم تعد معها مشاهد عمليات القاعدة ومؤتمراتها الصحفية وتسجيلاتها المسربة للإعلام، أمراً مثيراً للانطباع والمشاعر.
إنه فاصل قصير، سيشغلنا عن متابعة أخبار ثورات الحرية وانتفاضات الكرامة، نعود بعده لمتابعة فصول هذه الملحة التي تُسطّر الآن في مصراته وعدن ودرعا.(الدستور)