أكاديمية ربما الفضائية!
احصيت قبل ايام في ثلاثة اسطر فقط لخبير استراتيجي عربي ممن يخرجون من الثلاجات ويسخنون في المايكروييف الشبيه بالتلفزيون تسع مرات تكررت فيها كلمة "ربّما" وقد يرى البعض ان هذه عادات لسانية او عدوى فضائية من طراز كلمة "دعني" او "في الواقع" التي يبدأ المتحدثون بها، لكن المسألة ابعد من ذلك، فتكرار كلمة ربما يعني عدم التأكد من اي شيء او هو دفاع استباقي في حال تورط المتحدث بخطأ جسيم، كأن يقدم الواقع تكذيبا لتحليلات وتوقعاته، وبهذه المناسبة نقول ان الفضائيات العربية عممت على مشاهديها نمطا من الثقافة التي نصفها اعلام ونصفها الاخر اعلان، خصوصا في الحوارات التي تكون اقرب الى اشباه الجمل حيث يبحث المبتدأ عن خبره فلا يجده الا في فاصل.
ولان العرب يشاهدون الشاشات ويسمعون الاذاعات اكثر مما يقرأون فان فرصة المرئي والمسموع لصياغة ثقافتهم ومفرداتهم اليومية هي اضعاف الفرصة التي قدمها المقروء.
ولو عدنا الى ستينيات القرن الماضي لوجدنا ان المسموع الاذاعي في تلك الحقبة عمم نمطا من الثقافة القائمة على الهجاء المتبادل يوم كانت البرامج السياسية اشبه بمونولوج لا علاقة له بالحوار، وكانت بعض العبارات والصياغات تتسرب الى الحياة اليومية للناس وهم لا يشعرون بذلك.
ما الذي يمكن ان يخرج به المشاهد او المستمع من خبير اسمه "ربما" اذا كان كل شيء يحتمل الصواب والخطأ بالقدر ذاته؟
وثمة تفسيرات على الاقل لظاهرة ربما الفضائية، اولهما سايكولوجي متعلق بالتربويات العربية السائدة والتي تتغذى من ثقافة الاحتراز وفوبيا الخوف من الخطأ، وثانيهما مهارة في التهرب من ابداء رأي محدد وفق معطيات وقرائن لهذا الحدث او ذاك.
وقد يستخف البعض بهذه المسألة التي تبدو شكلية لاول وهلة، لانهم لا يعرفون ان اهم المداخل والمقتربات المنهجية الحديثة لدراسة الظواهر الانسانية تبدأ من تفاصيل عابرة وغير مثيرة للاهتمام. وما ادت اليه فوبيا الخوف من الخطأ وتوقع العقاب ابعد واعمق مما نظن احيانا، وتشهد على ذلك عينات متكررة من كتابات وتعليقات يمكن وصفها بانها هاملتية نسبة الى بطل شكسبير في مسرحيلة هاملت، فهذا البطل كما قدمه مؤلفه نموذج تاريخي للتردد وعدم القدرة على اتخاذ اي موقف حاسم.
ويبدو ان حروب الخليج الثلاثة قدمت تحذيرا للخبراء الاستراتيجيين من مغبة ابداء الاراء فيما يجري، لان معظم هؤلاء عادوا من الشاشات حفاة بعد ان اضاعوا الاخفاف كلها.
ان اكاديمية ربما الفضائية التي تنشر الان ثقافة بديلة ستفرز بمرور الوقت خبراء في فقه الصمت، بحيث يصبح كل شيء خاطئا ومصيبا في اللحظة ذاتها!!(الدستور)