جهل نووي!!

تلك المقولة الخالدة.. ما جادلني عالم الا غلبته وما جادلت جاهلا الا غلبني، تختزل كثافة هائلة من المخزون المعرفي فالجاهل شجاع على ما لا يعرف ويستطيع ان يثرثر بحرية عن اي امر اذا كان قد سمع شيئا ولو يسيرا وعابرا عنه بخلاف العارف المتردد الذي تتعدد مرجعياته ومصادره وشكوكه بحيث يجد بانه مطالب بالمقارنات وبترجيح فكرة على اخرى وهناك حكمة اسيوية قديمة تقول ان علبتين او صندوقين لا يسمع لهما صوت اذا خضهما المرء بيده، الفارغة تماما والملآى تماما وهذا ما دفع حمزاتوف الى القول بانه تعلم الكلام في سن الثالثة لكنه تعلم الصمت بعد الستين!
ولون شئنا سرد قائمة بالحكم والمواعظ والمقولات التي تحذر من الجهل لما انتهينا. لانها موجودة في كل اللغات والثقافات وان كان موروثنا العربي مثقلا بها منذ الجاهلية الاولى حتى جاهلية ما بعد الحداثة!!
احيانا يكون الجهل مدججا باسلحة لا تملكها المعرفة العزلاء الا من منطقها وتناغمها مع المنجز العقلي للبشر، لهذا نقرأ بعد قرون من ابن خلدون وريادته العقلانية حول مقاربة الروايات والشك في المنقول من الاخبار ومن ديكارت والكوجيتو الشهير الذي جعل الشك منطلقا منهجيا للمعرفة، من يقول في ايامنا عبارات من طراز مما لا شك فيه او مما لا يختلف فيه اثنان، وهذا بحد ذاته افتضاح علني لعودة الجهل، وللاحتكار ووهم المعصومية لدى من يعتقدون ان حوض الماء الذي كانوا يغتسلون فيه -اذا اغتسلوا -هو المحيط الاطلسي، او ان الالف درهم التي كان يجود بها اولياء النعم على المداحين هي الرقم الفلكي في الحاسوب الاعمى!
مشكلة الجاهل انه لا يعي مساحة جهله ولو كان يعيها لاصبح عارفا ومعتذرا عن اوهامه لنفسه اولا، فالمعرفة كما اوصى بها سقراط تبدأ من معرفة النفس ثم معرفة الاخر، لكن الجهل ينفي وجود الاخر الا بوصفه صدى او ظلا للذات التي تورمت حتى تسرطنت وهذا ما سماه المتنبي الفارق الجوهري والحاسم بين الشحم والورم.
لقد عانى العرب في تاريخهم الحديث من آفات التجهيل ما يكفي لان يصبحوا اعداء لانفسهم وتكثر بينهم الدببة التي تقتل اصحابها بالحجارة من حيث تظن انها تدافع عنهم ضد الذباب.
وقد آن للنظام العربي بعد ان جرى ما جرى ان يتلقح ضد النفاق السياسي واساليب الدببة بما يحصنه من الانتحار تحت شعارات عديدة مضللة ومضادة للحقائق.
وحين قال العرب القدماء ان الصديق هو من يصدقك لم يذهبوا بعيدا عن هذه الحقيقة، فالكلمة اساسا مشتقة من الصدق، وليس من اي جذر لغوي اخر.
ان المعرفة قيد، بقدر ما هي اعتاق وتحرير هي قيد من حيث التروي في ابداء الاحكام والاراء حول مختلف الظواهر، وهي تحرير للانسان من الاوهام بحيث يصدق تلك الامثولة المأساوية التي ذهب فيها نرسيس او نرجس كما نسميه ضحية وهمه حين رأى صورته على صفحة الماء.
الجهل هو بيت الداء قبل اي شيء اخر لانه يحرم ضحاياه من اكتشاف الشرط البشري والمشترك الارضي بين كائنات تكدح معا في هذا الكوكب وعلى سطحه ثم تنتهي جميعا في باطنه.. قد يكون الجهل مدججا بالسلاح لبعض الوقت لكنه حتما سينتحر بسلاحه!! (الدستور)