دليل سياسي إلى العشوائيات

من يسمع بالعشوائيات ليس كمن طاف أزقتها ورأى عن كثب القبور فيها وقد تحولت الى طاولات للمقاهي أو مكاتب من حجر لتلاميذ يقرأون ويكتبون عليها.. قبل أكثر من عشر سنوات دلني عليها صديق طبيب ورجل أعمال كان من قادة حركة كفاية الاوائل هو الدكتور هاني عنان، وكان يصحبني في الفجر بسيارته الى تلك الجغرافية الأشبه بعينات من الجحيم الارضي؟
ملايين البشر يتنفسون زفير بعضهم في مقابر حذف فيها الفارق بين الأحياء والموتى ولأول وهلة قد يظن سائح أو عابر سبيل ان الموتى هم الذين يسمع ضجيجهم في تلك المناطق، وهم الذين يقودون السيارات ويسهرون على سطوح قبورهم، ولأن الطريق السريع الى حي المعادي حيث كنت أقيم في القاهرة يمر من تلك المقابر الجماعية التي تعج بالاحياء، فقد كنت في معظم الليالي أرى الموت والحياة يتعانقان في رقصة عجيبة، وان كان الاحياء قد فقدوا الخوف من الموت، لكن الموتى محرومون من مواصلة النوم الأبدي باستغراق لفرط ما يزعجهم من استوطنوا قبورهم رغم انها مسكونة!
وقد يكون الروائي خيري شبلي ضليعاً أكثر من سواه في هذه الأمكنة التي عاش فيها زمناً ليرصد عن قرب نمط الحياة العجيب الذي يسري في أزقتها وكتب شبلي الكثير عما رأى، دون ان ينسى أن الشطار ومصاصي نخاع الفقراء هم السبب كما في روايته التي حملت اسم الشطار وتحولت الى فلم سينمائي بعد ذلك!
وذات فجر رمادي قلت لهاني ونحن نرقب كيف يتسلل النهار من شقوق القبور ان رواية الطاعون لألبير كامو قدمت مشهداً لم أفهمه لدى قراءة الرواية للمرة الاولى، فبعد أن تفشى وباء الطاعون في مدينة وهران الجزائرية وهي مسرح الرواية يصطحب شاب حبيبته الى المقبرة، وحين تستغرب هذه الدعوة السوداء يقول لها أتيت بك الى هنا كي تسمعي ما يقول هؤلاء الموتى بصوت واحد.. وهو كلمة عيشوا...
ربما كان للحضارة المصرية القديمة دور في حذف الفارق بين المهد واللحد، لكن الفقر والشقاء أضافا أسباباً اخرى بعد خمسة آلاف عام، واعترف أنني كنت أعاني من كوابيس تقض المضجع كما يقال في المرات الاولى التي كنت أعبر فيها ذلك الجحيم، لكن سرعان ما أصبح الأمر مألوفاً، وذات يوم سألت الخادمة التي تأتي من تلك المناطق الى قبرك..؟ ضحكت حتى دمعت عيناها وقالت لن أظفر من هذه الارض الواسعة حتى بمساحة قبر!
بعد ثورة مصر، تجرأ فنان كوميدي لكنه ولد من رحم التراجيديا على نبش تلك القبور الجماعية التي تعج بالأحياء هو الفنان محمد صبحي، وقام بحملة تبرعات لانقاذ الاحياء من أنياب الموت سماها حملة المليار جنيه على ان يتبرع كل مصري بما لا يقل عن خمسة جنيهات مصرية وهي تعادل نصف دينار أردني!
نجح صبحي والفريق الذي يعمل معه.. وقرروا أن تنتهي الحلقة الاولى من مشروع اغاثة الاحياء الموتى بخمسة وعشرين مليار جنيه..
ما من عاصمة عربية تخلو من عشوائيات، وقد تكون كلها عشوائيات اذا تجاوزنا التعريف العمراني لهذا النمط من الحياة، فالعشوائية سلوك وتفكير وتربية أيضاً.
فهل يبادر عرب آخرون الى مثل هذا الاستدراك بحيث لا يكون تغيير النظام أو اسقاطه هو الشرط للبدء بمثل هذه المبادرات المتحضرة؟
هذا مجرد دليل سياسي وغير سياحي الى قبور الأحياء الجماعية..