أحياؤنا الموتى.. وموتانا الأحياء!

من دفعوا حياتهم ثمنا للاستقلال لم ينعموا به، كانوا يدركون شأن كل الشهداء والفارين انهم يفعلون ذلك من اجل احفاد احفادهم، وهذا ما عبر عنه جيفارا بكلمات تفوح منها راحة الشجن عندما قال ان من يصنعون الثورات والتغيير يكونون القطفة الأولى للموت، ومن ينعمون بالثمار هم اخرون تماما! وهذه ليست إدانة للأحياء لانهم لم يموتوا، لكنها سنة الحياة والطبيعة، فثمة حشرات تحمل بيضها على ظهرها، وما ان يفقس البيض حتى يلتهم الأبناء الامهات والاباء معا..
إن الفارق بين من يرى نفسه مجرد قطرة في المحيط البشري وبين من يتوهم انه المحيط كله، هو ان الاول متحرر من الاوهام وخداع الذات وتعقيد لأسباب لها صلة بانيميا الاخلاق والخيال انه خالد وان الاخرين فانون! اما الثاني فهو مخدوع من مهده الى لحده، لهذا يسخر من اية مشروعات مستقبلية لن يتاح له ان يشهدها، ويردد مع الشاعر الحمداني.. ان مت ظمآن فلا نزل القطر.. ولا اظن ان هذا الشاعر الفارس كان سيتورط بهذه الانانية العمياء لولا الضيق الذي احس به في الاسر!
ولا يشبه هذا القول الاناني الذي يحذف المستقبل لصالح اللحظة الراهنة الا تلك العبارة المجنوة لامبراطور قال ليأت من بعدي الطوفان وقد جاء الطوفان بالفعل من بعده لكنه لم يسلم منه فجرف عظامه وهي رميم في القبر.
وأغرق المخطوطات والمقتنيات التي كان يفخر بها كما انه ايضا اغرق سلالته كلها!
واحيانا نتساءل ما الذي يدفع ثريًا من طراز بيل غيتس الى التبرع بثروته كلها للمحتاجين؟ أو ما الذي يدفع شابا ايطالياً وسيماً لا ينقصه شيء الى ان يحول حنظلة وهو التوقيع الشهير للشهيد ناجي العلي الى وشم على ذراعه، ويأتي الى غزة ليموت فيها برصاص غير رصاص من جاء يقاومهم؟
قبل ستين عاما او اكثر كتب طه حسين مقالة بعنوان اغنياؤنا واغنياؤهم قارن فيها بين ممارسات الاثرياء العرب والاثرياء الاوروبيين الذين رعوا الفنون والآداب ومنهم من منح كل ما يملك لورثة ليسوا من صلبه العضوي لكنهم من صلبه الحضاري والوطني!
ان كل من دفعوا حياتهم لاجلنا منذ لثغت هذه الامة بالابجدية والنشيد الخالد كانوا يدركون بأنهم لن ينعموا بنتائج أفعالهم وانهم يتبرعون بما تبقى لهم من اعمال من اجلنا لهذا كانوا الموتى الاحياء مثلما نحن الآن الاحياء الموتى، فأية مفارقة وجودية هذه؟
وكيف سيفهم من حولته الانانية وسعارها الى مجرد أمعاء تسعى كالثعابين في هذه الارض ان هناك بشرا يقدمون على ذلك ويبلغ لديهم الايثار حدا لا يمكن للاثرة التي افترست ضميره ان تفهمه!
لو احصيناهم واحدا واحدا هؤلاء الذين قضوا من اجل ان نبقى، لوجدنا ان التقاويم على مدار اللحظة لا الساعة فقط مطوبة لهم وممهورة بأسمائهم ودمهم، فهم الاجدر بالاحصاء من رموش العيون, لان الرموش تذبل وتغفو أما هم فإنهم ساهرون في قبورهم ومتفرغون لحراسة جذورنا بدءا من الزيتون والنخيل والسنديان حتى جذور العظام الباقية لاسلافنا الغاربين وليسوا الغابرين.. فهم غاربون كشمس اختفت في افق مكان لتشرق في اللحظة ذاتها في مكان آخر!
فيا ايها الفريسيون والكلبيون وآكلو لحوم موتاهم، وقاضمو اثداء امهاتهم.. لا تسخروا ممن كانوا السبب في بقائكم على قيد تاريخكم وجغرافياتكم وحتى لغتكم!! ( الدستور )