الحديقة

هل تعبر الحديقة عن تكوين طبيعي ومساحة من الفراغ والاطلالات التي تسعف الانسان في التقاط الروح بعد مكابدة نهار او حزن او واقعة ما.. ام هي تكوين انساني وحالة امتداد انسانية خارج الجسد.
في الكتب المقدسة وفي الاديان البدائية التي سبقتها ثمة شجرتان في البستان المفقود, هما شجرة الحياة وشجرة المعرفة, وقد خسر الانسان الشجرة الاولى ما ان تجاسر على شجرة المعرفة المطلقة تحت تأثير التاويلات المعروفة للتفاحة الآثمة وحواء الافعى.. الخ.
هذا ما يستعيده الانسان بعد الخمسين حين يكون قد استنفد مغامراته داخل التاريخ الذي يراه البعض تاريخا شيطانيا بالضرورة.. فتسكنه استدعاءات ورغبات دفينة للعودة الى الفردوس او البستان المفقود ويبدأ باسقاط هذه الرغبات على ما تيسر حوله من اشجار وبساتين صغيرة وغالبا ما تترافق هذه الرغبات بنزعات تدين صوفية »الديانة+ الرومانسية + الاحساس بالراحة والتسامح« كما تترافق مع ذكريات طرية وكأنها حاضرة في اللحظة نفسها.
والمدهش هنا, تمييز لويس ما سينيون بين الحديقة الرومانية (الامبريالية) على حد تعبيره والتي لا تزال تسيطر على الثقافة الاوروبية والامريكية, وبين الحديقة الانسانية (الروحية).
ففي ترجمة مهمة للصديق الدكتور اللبناني عفيف عثمان, ينطلق ماسينيون في تمييزه من اعتباره الحديقة مكانا لاحلام اليقظة, ومقابل الحدائق الاوروبية الكلاسيكية التي بدأت مع الامبرطورية الرومانية, كان الهدف هو السيطرة على العالم من وجهة نظر مركزية: منظورات كبيرة تقود الى الافق, احواض مياه كبيرة تعكس البعيد, محاطة باشجار ذات قامات شديدة, تقود العين شيئا فشيئا, نحو غزو البلد المجاور, مقابل ذلك, في الحديقة الاسلامية, الشيء الاول الذي يهم, هو انغلاق يعزل عن الخارج, وبدلا من ان يكون الاهتمام منصبا على الطرف, فهو يقيم في المركز.
تصنع هذه الحديقة بأخذ قطعة من الارض, باحياء مربع من الصحراء جرت المياه اليه, داخل حائط السور العالي, حيث لا يمكن »العيون« الفضولية ان تتجاوزه الى الداخل, نجد تخميسات من الاشجار والازهار, التي تتزاحم اكثر فاكثر, وذلك بقدر ما نذهب من الطرف نحو المركز. وفي المركز قرب عين الماء الفوار والمتدفق يوجد الكوخ الخشبي, هذه الحديقة, وعلى خلاف الحديقة الكلاسيكية, وحديقة المناظر اليابانية, تجلب سلوى للفكر المنطوي على ذاته. ( العرب اليوم )