درعا: قصتي مع المدينة
تم نشره الخميس 23rd حزيران / يونيو 2011 01:29 صباحاً

موفق ملكاوي
لم أدرك بعد كيف تغيب الذاكرة إلى جهة غير معلومة، لذلك فما يزال بي بعض تذكر عن أيام قديمة ساقت خطاي إلى مدن لم أعهدها من قبل.
كتب الكثيرون عن كيف أن الأردنيين استغلوا فرصة الأحداث في سورية، فراحوا يسنون سيوفهم للانتقاص من الجارة الشقيقة.
آخرون كتبوا عن عمالات إمبريالية، ومقالات مدفوعة الأجر بـ"الدولار" الأميركي من أجل إسقاط جدار الممانعة الأخير.
زملاء أيضا، كتبوا عن "تصدير الافتراء"، وتأليف البيانات الكاذبة لتزوير "الحياة الهانئة" التي يعيش في كنفها الأشقاء السوريون.
ذوو بصيرة أبعد من غيرهم، دعوا على شراذم "الكتبة المستأجرين" بالعار إلى يوم القيامة، إذ لا يمكن أن تكون سورية إلا الدولة التي عرفناها بمقاومتها وممانعتها.. وبقمعها وحقوق شعبها المنقوصة.
فئة خامسة، اختارت الرد على الكتّاب بـ"الخفية"، وبأسماء مستعارة، فراحت تبعث لهم تهديدات وشتائم على بريدهم الإلكتروني، يستحي منها الورق والحبر والفضاء الإلكتروني.
جميعهم كتبوا عن زوايا تخصهم، وربما عن "هِبات دورية" يتنعمون بها في ظل نظام مجرم لا يراعي حرمة طفل ولا امرأة ولا مسن ترك السلاح، وربما ترك الهتافات منذ زمن بعيد.
أما أنا فسأكتب عن درعا. عن المدينة الأولى التي اختبرت فيها السفر إلى خارج حدود الأردن للمرة الأولى.
مثل أي إربدي حفر على ملامحه وشم حوران، كان لا بدّ لدرعا أن تكون الوجهة الأولى إلى خارج الحدود.. وهكذا كان.
قبلها بليلة، وعندما أخبرني والدي بأنني سوف أذهب برفقته إلى درعا، لم أستطع النوم.
وضعت في مخيلتي صورا عديدة للمدينة التي سأحلّ فيها ساعات طويلة، قبل أن تعيدني الطريق مرة أخرى إلى إربد من جديد.
رسمت في مخيلتي صورا لبحر عريض تختال قربه نساء جميلات يتخففن مما ثقل من الملابس، ومطاعم مضاءة بالكهرباء، وليست مثل بيوتنا التي لم تكن قد تشرفت بها بعد.
رسمت صورا لرجال تعلو رؤوسهم القبعات الأنيقة، ونساء يرتدين الفساتين القصيرة، وشوارع بها خليط من بشر يشبكون أيديهم ببعضها بعضا، ويتضاحكون طوال الوقت.
ولكن، في اليوم التالي اصطدمت بصور أخرى تكاد تكون مكرورة في ذاكرتي الطفولية الحديثة. واصطدمت قبلها أكثر بالمسافة التي لم أشعر بها وأنا أقطع حدودا وأعبر أخرى.
أين درعا يا أبي؟
تبسم والدي وهو يشير بيده إلى شوارع لم أحسب أنني سأشاهد مثلها. كانت ممتلئة ببقايا العلب الكرتونية من أصناف وأحجام مختلفة. أما الناس الذين يمرون بها، فقد كانوا رجالا "إربديين"، بملامحهم وألبستهم ونزقهم.
أوشكت أن أشك في كلام أبي، وأظن للحظة بأنه أخذني إلى حيّ آخر من إربد المدينة التي احتضنت سني طفولتي، غير أنه تطوّع أن يشرح لي.
قال إنهما مدينتان متشابهتان في العادات والتقاليد وأشكال البشر، وحتى في أسماء الناس والعائلات. قال إننا حورانيون من نفس الدم، نمتلك القسمات نفسها في المدينة الشمالية وفي الشقيقة الجنوبية، ووجودنا سابق لوجود الحدود التي قسموا فيها الأهل إلى جنسيات مختلفة.
وقتها لم أفهم جميع ما عناه أبي، غير أن لهجته الحميمية وكلماته الدافئة التي ما أزال أتذكرها إلى اليوم، منحتني اطمئنانا غريبا، وإيمانا عميقا بأنني غادرت إربد إلى مدينة أخرى تشبهها تماما.. تلك كانت درعا.
غير أن الأهم من كل ذلك، هو أن تلك "الخطبة الأبوية" القصيرة، قد حفرت عميقا في جَوّانيتي، لتظل درعا من أعز المدن إلى قلبي حتى اليوم، فهي المدينة التي عبرت إليها حدودا.. واحتضنتها.
تلك قصتي مع درعا، وربما قصتي مع سورية كلها. لم أحاول أن "أسدد" فواتير لأحد وأنا أكتب عن الدم السوري المستباح من النظام، كما اتهمنا زملاء مهنة، ولا حاولت أن "أنتقم"، أو "أثلمَ" مسننات المقاومة والممانعة.
كل ما حاولت فعله هو أن أستذكر أنني حوراني لا يجوز له الصمت وأهل درعا يقتلون. ولا يجوز لي الصمت وأهل درعا يتألمون على إخوانهم الذي يذبحون بدم بارد في المدن السورية الأخرى.. فيما المجتمع الدولي يحاول أن يعيد ترتيب أولوياته في المنطقة من جديد. ( الغد )
كتب الكثيرون عن كيف أن الأردنيين استغلوا فرصة الأحداث في سورية، فراحوا يسنون سيوفهم للانتقاص من الجارة الشقيقة.
آخرون كتبوا عن عمالات إمبريالية، ومقالات مدفوعة الأجر بـ"الدولار" الأميركي من أجل إسقاط جدار الممانعة الأخير.
زملاء أيضا، كتبوا عن "تصدير الافتراء"، وتأليف البيانات الكاذبة لتزوير "الحياة الهانئة" التي يعيش في كنفها الأشقاء السوريون.
ذوو بصيرة أبعد من غيرهم، دعوا على شراذم "الكتبة المستأجرين" بالعار إلى يوم القيامة، إذ لا يمكن أن تكون سورية إلا الدولة التي عرفناها بمقاومتها وممانعتها.. وبقمعها وحقوق شعبها المنقوصة.
فئة خامسة، اختارت الرد على الكتّاب بـ"الخفية"، وبأسماء مستعارة، فراحت تبعث لهم تهديدات وشتائم على بريدهم الإلكتروني، يستحي منها الورق والحبر والفضاء الإلكتروني.
جميعهم كتبوا عن زوايا تخصهم، وربما عن "هِبات دورية" يتنعمون بها في ظل نظام مجرم لا يراعي حرمة طفل ولا امرأة ولا مسن ترك السلاح، وربما ترك الهتافات منذ زمن بعيد.
أما أنا فسأكتب عن درعا. عن المدينة الأولى التي اختبرت فيها السفر إلى خارج حدود الأردن للمرة الأولى.
مثل أي إربدي حفر على ملامحه وشم حوران، كان لا بدّ لدرعا أن تكون الوجهة الأولى إلى خارج الحدود.. وهكذا كان.
قبلها بليلة، وعندما أخبرني والدي بأنني سوف أذهب برفقته إلى درعا، لم أستطع النوم.
وضعت في مخيلتي صورا عديدة للمدينة التي سأحلّ فيها ساعات طويلة، قبل أن تعيدني الطريق مرة أخرى إلى إربد من جديد.
رسمت في مخيلتي صورا لبحر عريض تختال قربه نساء جميلات يتخففن مما ثقل من الملابس، ومطاعم مضاءة بالكهرباء، وليست مثل بيوتنا التي لم تكن قد تشرفت بها بعد.
رسمت صورا لرجال تعلو رؤوسهم القبعات الأنيقة، ونساء يرتدين الفساتين القصيرة، وشوارع بها خليط من بشر يشبكون أيديهم ببعضها بعضا، ويتضاحكون طوال الوقت.
ولكن، في اليوم التالي اصطدمت بصور أخرى تكاد تكون مكرورة في ذاكرتي الطفولية الحديثة. واصطدمت قبلها أكثر بالمسافة التي لم أشعر بها وأنا أقطع حدودا وأعبر أخرى.
أين درعا يا أبي؟
تبسم والدي وهو يشير بيده إلى شوارع لم أحسب أنني سأشاهد مثلها. كانت ممتلئة ببقايا العلب الكرتونية من أصناف وأحجام مختلفة. أما الناس الذين يمرون بها، فقد كانوا رجالا "إربديين"، بملامحهم وألبستهم ونزقهم.
أوشكت أن أشك في كلام أبي، وأظن للحظة بأنه أخذني إلى حيّ آخر من إربد المدينة التي احتضنت سني طفولتي، غير أنه تطوّع أن يشرح لي.
قال إنهما مدينتان متشابهتان في العادات والتقاليد وأشكال البشر، وحتى في أسماء الناس والعائلات. قال إننا حورانيون من نفس الدم، نمتلك القسمات نفسها في المدينة الشمالية وفي الشقيقة الجنوبية، ووجودنا سابق لوجود الحدود التي قسموا فيها الأهل إلى جنسيات مختلفة.
وقتها لم أفهم جميع ما عناه أبي، غير أن لهجته الحميمية وكلماته الدافئة التي ما أزال أتذكرها إلى اليوم، منحتني اطمئنانا غريبا، وإيمانا عميقا بأنني غادرت إربد إلى مدينة أخرى تشبهها تماما.. تلك كانت درعا.
غير أن الأهم من كل ذلك، هو أن تلك "الخطبة الأبوية" القصيرة، قد حفرت عميقا في جَوّانيتي، لتظل درعا من أعز المدن إلى قلبي حتى اليوم، فهي المدينة التي عبرت إليها حدودا.. واحتضنتها.
تلك قصتي مع درعا، وربما قصتي مع سورية كلها. لم أحاول أن "أسدد" فواتير لأحد وأنا أكتب عن الدم السوري المستباح من النظام، كما اتهمنا زملاء مهنة، ولا حاولت أن "أنتقم"، أو "أثلمَ" مسننات المقاومة والممانعة.
كل ما حاولت فعله هو أن أستذكر أنني حوراني لا يجوز له الصمت وأهل درعا يقتلون. ولا يجوز لي الصمت وأهل درعا يتألمون على إخوانهم الذي يذبحون بدم بارد في المدن السورية الأخرى.. فيما المجتمع الدولي يحاول أن يعيد ترتيب أولوياته في المنطقة من جديد. ( الغد )