الرؤية الأبعد من الأنف!!

الكلام الهادئ في أجواء مشحونة بالتوتر وصاخبة قد يبدو بليدا او باردا وتغريدا خارج السرب، لهذا يفضل من يميلون الى هذا النمط العقلاني من التكفير والتعبير الى التريث قليلا، تماما كما يتريث النحاتون قبل ان يغرزوا أصابعهم في الصلصال الساخن!
والضريبة التي لا بد منها في هذا المجال هي تفويت اللحظة المناسبة لابداء الرأي، رغم انه ما من موعد لابداء رأي فكري وسياسي في ظاهرة لم تهدأ بعد وقد لا تهدأ في المدى المشهود! لكن هذه الضريبة او هذا العرض الجانبي قد يكون اهون من الاعتذار وتغيير الموقف بعد التحرر من لحظة الانفعال التي يعلن فيها القلب حكما ذاتيا مستقلا عن العقل ويتولى التفكير نيابة عنه!
والمناسبات التي اختبرت سطوة التفكير الانفعالي على العقلانية عديدة، ويوشك ان يكون عددها بعدد الازمات التي مر بها وطننا العربي على الاقل خلال العقود الثلاثة الماضية.. فمن دقوا الطبول ورقصوا على ايقاعات الفانتوم والاباتشي وصواريخ كروز وسائر القنابل الذكية لحظة احتلال العراق كان عليهم ان ينتظروا اعواما كي يدركوا ان للحرية بابا اخر غير الغزو، وان دخول العواصم بالدبابات التي ترفرف عليها اعلام الغزاة ليس كالخروج منها لانها حمامات ايضا لكن من دم لا من ماء ولا ندري متى سيفرج الله علينا بالخروج من اسر الثنائيات التي تحول العالم كله الى لونين فقط، فاما مع هذا الطرف او ضده، والهوامش محظورة، لانها تفسد على العقل الكسول ثنائياته والخانات التي يحشو فيها كل الاحداث والتواريخ!
من كانوا ضد الاحتلال في العراق صنفوا على الفور بانهم مع النظام رغم استقلالهم ومجمل مواقفهم الشاجبة للنظم سواء كانت شمولية او شبه شمولية، والسياسة ليست حقلا من خارج هذا العالم، انها تعكس في الاساليب والرؤى والمناهج ثقافة تربوية واجتماعية، ونحن في حياتنا الاجتماعية أسرى ثنائيات من طراز آخر، فنحن أما ازواج أو مطلقون، واما أصدقاء أو اعداء، واما طيبون وكرام أو خبيثون وبخلاء، والبعد الثالث محذوف بقسوة بحيث لا يتبقى امامنا الا أن نكون مع أو ضد كأن البشرية شطرت بسكين افلاطوني مشحوذ بين ملائكة وشياطين وأبطال وخونة.
ان أنبل ما يمكن للضحية أن تنجزه هو تفوقها على الجلاد وعدم تحولها الى تلميذ نجيب لافكاره وساديته.. واستمرار قاموس الهجاء المتبادل هذا النحو الجاهلي يورطنا جميعا في مواقف ندينها ونثور عليها.
الكلام الهادىء في أجواء مشحونة وصاخبة قد يكلف صاحبه ثمناً لا يطيقه وفق أدبيات لا تعترف بالحوار وتتأسس تربوياً وثقافياً على فقه الاحتكار والاقصاء المتبادل وشطب منطقة الأعراف أو ما سماه دانتي اللمبو بين الجنة والنار..
نحن لا ندعو الجميع الى التريث أو العقلانية.. ومن حق الاكثرية أن تعبر كما تشاء عما تشعر به لكن أبسط تعريف للديمقراطية التي ترفع شعاراً للمرحلة يتيح للاقل انفعالاً أن يعبروا عما يرون خصوصا اذا كان أبعد من الأنف والظل! ( الدستور )