الجريمة المجانية

انفرد الانسان بين الكائنات كلها بالقتل من أجل القتل فقط، فالحيوانات لا تفعل ذلك الا اذا جاعت أو كانت في حالة دفاع عن نفسها، وأغرب ما يثار الآن في مصر وعبر وسائل اعلام مرئية هو جرائم من طراز غير مسبوق بحيث يتعرض رجال ونساء من مختلف الشرائح للموت على الطرق السريعة، أو في أمكنة نائية تنصب فيها الكمائن..
قبل يومين لم يستطع المشاهدون لقناة دريم الثانية حبس دموعهم وهم يصغون لما قاله استاذ جامعي في القانون عن ابنه الوحيد الذي سماه صديقه الوحيد في الكون، فقد قتل هذا الشاب وهو بصحبة خطيبته، ولم يكن القتل بهدف السطو وعلى الفور اتصل مشاهد آخر ليقول بأن رجل أعمال كان في حوزته ثلاثمئة الف جنيه قتل ولم تمتد يد قاتليه الى جنيه واحد.
ومن حق الناس على اختلاف رؤاهم ومقترباتهم الفكرية أن يجتهدوا في تفسير هذه الظاهرة، فمنهم من يقول انها من صناعة الثورة المضادة وفلول رموزها، لكن هناك من يذهبون الى ما هو أبعد ومن خلال منظر سايكولوجي فيروا بأن المكبوت بمختلف أبعاده السياسية والاقتصادية والجسدية والنفسية وجد مناسبة للاندلاع من جحوره حيث يهجع.. والعجيب ان المصريين كما عرف عنهم مسالمون الى حد كبير لكنهم بشر ايضا، كابدوا من الفقر والحاجة والمظالم شأن معظم شعوب هذه المنطقة المنكوبة، لهذا فان غياب الأمن كان بمثابة اختبار لما ادخروا من الالم.
فمن يسطو على متحف او مؤسسة دولة او أي معلم سياسي او ثقافي يتوهم بأنه ينتقم، ويثأر لألمه المختزن، لكنه عندما يصحو من هذه الغيبوبة سيدرك حتما بأنه اخطأ الهدف، وانه اعتدى على ممتلكات تخصه وتخص ابناءه واحفاده.. ومن يعرفون مصر والادرى من غيرهم بشعابها يستغربون مثل هذه الظاهرة الطارئة فلم يكن ذات يوم القتل من اجل القتل نمطا من الجرائم الاكثر شيوعا، خصوصا وان المعتدى عليهم مواطنون عاديون، وليسوا متهمين بالتربح أو الاستبداد او حتى الانتساب الى النظام السابق.
ان اللحظة الآن مناسبة كي يترجل اكاديميون وعلماء نفس واجتماع عن المنصات العالمية لفحص عينات من هذه الافرازات النفسية التي تنذر باخطار قد يتعذر التصدي لها او اجهاضها قبل حدوثها!
وهنا لا بد من التذكير بان الثقافة السائدة وما يبثه الاعلام المعلب وفاقد الصلاحية اسباب كافية لاصابة الناس بالعمى المؤقت على الاقل. فالنظم تنسب الفقر والظلم الى مجهول، ويحل نائب الفاعل مكان الفاعل تبعا لهذا المفهوم المضلل، لهذا ما ان تدب الفوضى حتى يشتبك الناس مع بعضهم اي مع نائب الفاعل في غياب الفاعل، وما ينبغي الثورة عليه هو هذا النمط من الثقافة اولا وقبل اي شيء اخر، فقد اتضح ان هناك ازمة ثقة مزمنة ومتفاقمة بين المواطن والدولة وبينه وبين ذويه ونفسه ايضا، لان البوصلات معطلة، والتثقيف يسير باتجاه واحد، هو سلب الوعي، وتغريب الناس عن أنفسهم، وتحولهم عند اول منعطف للفوضى الى سلاحف فقدت صدفاتها.
الان يتضح لنا حجم المخزون القومي لا من الثروات او الاحتياطيات الاستراتيجية بل من الحقد والانتقام، وفي غياب الكوابح الذاتية يصبح كل شيء مباحا بدءا من المتحف والمدرسة حتى المستشفى وبيت الجيران!
اما اذا كان هذا النمط من الجرائم منظما وموظفا لكي يبكي الناس على أطلال النظم المنهارة فإن الرهان فاشل من جذوره لان هذه الجرائم وسواها هي من افرازات تلك النظم، وهي التي حبلت بها قبل عقود من ولادتها
( الدستور )