«القطبة المخفية» في استحقاق سبتمبر

قررت القيادة الفلسطينية التوجه إلى الأمم المتحدة في أيلول / سبتمبر المقبل، طلباً للاعتراف بدولة فلسطين المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس...وهي الخطوة التي بدت الساحة السياسية الفلسطينية مشغولة بها، من الرأس حتى أخمص القدمين، منذ أن توقفت المفاوضات، بل ومنذ مجيء حكومة اليمين واليمين المتطرف برئاسة نتنياهو إلى سدة الحكم في إسرائيل.
إسرائيل ترفض الفكرة وتقاومها، وتعتبرها خطوة أحادية، وتتخذ منها ذريعة للعودة إلى مقولة "غياب الشريك"، وستتخذ منها "مبرراً" لمزيد من الخطوات الإحادية، ليس الاستيطان سوى واحدة من أبشعها، فقد نرى على سبيل المثال، توجهاًَ إسرائيلياً رسمياً لضم الكتل الإستيطانية الكبرى، رداً على القرار الفلسطيني حين يدخل حيز التنفيذ.
واشنطن، جرياً على عادتها، أخذت الموقف الإسرائيلي، وصاغته بلسان أمريكي مبين، وقاطع في حزمه وعزمه: محظور على الفلسطينيين الذهاب إلى الجمعية العامة، مع أن الرئيس أوباما هو من ضرب الموعد مع محمود عباس للالتقاء به في نيويورك هذا العام، وقد دخلت فلسطين نادي الدول المستقلة والمعترف بها...أوباما هو أول من "ضرب" الموعد مع فلسطين المستقلة...و"أوباما" هو أول من "ضربه" كذلك.
نأمل أن يكون الموقف الفلسطيني قطعياً ونهائياً هذه المرة...نأمل أن يرتفع منسوب الاستنفار إلى أعلى درجاته...فهذه واحدة من المعارك الدبلوماسية الهامة التي يخوضها الشعب الفلسطيني لتثبيت حضوره على الخريطة الدولية...لكنني مع ذلك، لا أمتلك اليقين والثقة، بأن اجتماع "القيادة الفلسطينية" الأخير، هو نهاية مطاف عملية الشد والجذب...فثمة "قطبة مخفية" في الموقف الفلسطيني، تبقي الباب "موارباً" أمام احتمالات التراجع وتدوير الزوايا.
لقد انتشرت عبارة "في حال فشلت المفاوضات" في التصريحات والمواقف والبيانات الفلسطينية التي صدرت مؤخراً...ونحن نعرف، والكل يعرف، أن هناك محاولة أمريكية – فرنسية لـ"تفصيل" سلّمٍ جديد للرئيس عباس للهبوط به عن شجرة استحقاق أيلول...ويبدو لي أن المطلوب الآن، تفصيل مجموعة من السلالم، فالذين اتخذوا القرار أمس في رام الله، كثر..صحيح أن عباس أبرزهم وأقواهم حضوراً، لكنه ليس الوحيد من بينهم من هم متحمس لهذه الخطوة.
في الحادي عشر من تموز/يوليو القادم، من المفترض أن تلتئم في نيويورك، اللجنة الرباعية الدولية، في واحد من اجتماعاتها الهامة (النادرة على أية حال)، ولا أدري على أي مستوى سيكون لقاء نيويورك...لكنه سيبحث في إمكانية توجيه رقاع الدعوة لمختلف الأطراف، للانخراط في مفاوضات مباشرة، على قاعدة تجمع ما بين خطاب أوباما الشهير في وزارة الخارجية مؤخراً، ومبادرة ساركوزي لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
أي أن المفاوضات التي ستُدعى إليها الأطراف، ستكون على قاعدة خط حزيران 1967 مع تبادل متفق عليه للأراضي، ومن دون الإشارة إلى مصائر القدس واللاجئين وغيرها، بل وربما تكون "يهودية" الدولة، واحدة من المبادئ الأساسية التي يتعين على المفاوضات أن تستند إليها.
حتى الآن، ليس ثمة ما يشير إلى أن نتنياهو سوف يقبل بأسس التحرك الفرنسي - الأمريكي المنسّق ومرجعياته...وقد سبق للرجل أن رفض خطاب أوباما ومبادرة ساركوزي، من دون أن يفقد صداقتهما ودعمهما...لكن صحف تل أبيب العبرية، نشرت خلال الأيام القليلة الفائتة، "تسريبات" تفيد بأن نتنياهو قد يقبل باستئناف المفاوضات على هذه الأسس، شريطة ألا يطلب إليه تجميد الاستيطان، ومقابل أن يطلب إلى الفلسطينيين الاعتراف بيهودية الدولة.
الفلسطينيون سيجدون صعوبة في قبول الأمرين معاً...وستفقد القيادة جديتها وصدقيتها إن هي عادت للمفاوضات من دون تجميد الاستيطان أو إن هي اعترفت بيهودية الدولة...لذا يبدو البحث جارٍ بنشاط عن "تخريجة" بعد أن عزّ "المخرج" لهذا الاستعصاء...والتأجيل في موقف كهذا، هو الوصفة السحرية...فقد يتم تأجيل المطالبات، كل المطالبات...الفلسطينيون لا يتحدثون عن تجميد الاستيطان، ونتنياهو يضرب صفحاً عن طرح قضية يهودية الدولة، وسيصار إلى تقديم ملفي الأمن والحدود على جدول أعمال المفاوضات والمتفاوضين، ودائماً بحجة أن الاتفاق على هذين البندين، سيجيب تلقائياً على أسئلة الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء...حول هذه النقطة، تدور الآن المفاوضات والاتصالات.
سيكون من الصعب على "أبو مازن" أن يذهب إلى نيويورك إن هو تلقى بطاقة دعوة لحضور مؤتمر دولي في باريس، أو للجلوس على مائدة مفاوضات في واشنطن...لا سيما إن قبل نتنياهو باعتماد خط الرابع من حزيران أساساً لترسيم الحدود مع تبادل للأراضي...وفي ظني أن عباس لا يرغب أن يرى نتنياهو قد فعلها، تماماً مثلما أن نتنياهو يريد لمسلسل التصعيد الفلسطيني أن يتوالى فصولاً، أقله لضمان "تزخيم" مسلسل الضم والتهويد والاستيطان الزاحف، وكل "سبتمبر" وأنتم بألف خير.
( الدستور )