أحلام اسرائيل وكابوسها !!

القراءة الانتقائية للصحف العبرية تورطنا أحيانا بالتعتيم على ما لا نود قراءته أو سماعه، بعكس القراءة البانورامية التي تحيط بالمشهد من مختلف الزوايا والمقتربات، وحين تستوقفنا مقالات بالعبرية من طراز مقالة شترنغر في هآرتس فليس لأنها صرخة في وجه العنصرية الصهيونية، أو تحذير من المستقبل الذي لن يرحم من تجاهلوه وتصوروا انه مجرد اعادة انتاج للماضي، مقالة شترنغر باختصار تعلن ان اكثر اليهود في العالم حتى من يؤيدون الدولة العبرية أصبحوا عاجزين عن الدفاع عن أطروحاتها وسياساتها وثمة من اليهود كما جاء في المقالة من تحولت حياتهم الى كابوس طويل، وخصوصا الذين يصنفون في خانة الليبرالية، ولو شئنا البحث عن مقالات من هذا الطراز وفي المناخ ذاته فسوف نجد انها لم تعد من الاستثناءات التي كان يكتبها يساريون كتلك التي كانت تنشر في هاعولام هازيه التي يرأس تحريرها افنيري وهو اليهودي المناهض لعنصرية الصهيونية والساخر من تلك الديمقراطية المفصلة على قياس اليهود فقط، لهذا اقترح يوري افنيري ان تقسم الديمقراطية في العالم بأسره الى نمطين، الاول هو المتعارف عليه منذ الاغريق والثاني ما ابتدعته الصهيونية، فهذا النمط الهجين من الديمقراطية حكر على اليهود فقط، وهكذا تتحول الديمقراطية المعنصرة دكتاتورية في اقصى تجلياتها العرقية.
ان الدفاع عن اطروحات الدولة العبرية الآن، وكما تتجسد في خطاب نتنياهو المتكرر والممل أمر متعذر على كل من له دراية ولو بدائية بالمنطق والمحاججة، وقد تكون البرهنة على استطالة الارض او عدم دورانها أسهل من هذه المهمة العسيرة، لان الجرائم التي تقترفها دولة الاحتلال والاستيطان متلفزة ومشهودة في نطاق كوني، ولم تعد على غرار تلك الجرائم التي مارستها عصابات شترن والهاجاناة عام 1948، يوم كان كل شيء يتم سرا وبعيدا عن عيون الشهود..
ان ما يكتب الآن عن تحول الحلم الى كابوس لدى اكثرية اليهود يفتضح مزاعم المشروع منذ بواكيره، والباحثون الآن عن ريادة ثانية من طراز ليبرمان يفوتهم ان الريادة الاولى ذاتها لم تعد ايقونة، وانها أصبحت عرضة للشكوك فيها جذريا.
ما يحدث الان لدى شريحة واسعة من اليهود هو بمثابة اكتشاف حتى لو كان متأخرا لتلك الخديعة، فمن سيقوا الى فلسطين تحت شعار العودة الى ارض الميعاد سرعان ما وجدوا انفسهم في المنفى، وكان عليهم ان يولدوا مرة اخرى كي يصبحوا مؤهلين لمواطنة غير مسبوقة في التاريخ، وهي مواطنة مدفوعة الاجر، فالذاكرة لا تزرع كالاعضاء والانتماء الاصيل لا يتم باساليب الاغواء والاستدراج الى الموت او الحياة في ثكنات على حافة الموت.. ومن توقعوا مثل هذه النهاية المبكرة نسبيا لفشل المشروع الصهيوني لم يذهبوا بعيدا عن الواقع، او ان عواطفهم وحدها هي ما دفعهم الى ذلك التوقع، لان المشاريع الاحتلالية والحلولية ايضا بالمعنى الوجودي تحمل بذور شيخوختها المبكرة وبالتالي موتها في طياتها وفي جذر البنية التي يتشكل منها نسيجها الفكري!
ولا نظن ان راشيل مزراحي وشلومو رانخ واخرين قد اخطأوا عندما رأوا عن بعد مثل هذا المصير الكابوسي، فهم ليسوا اعداء لابناء جلدتهم من اليهود بقدر ما يشفقون على اطفالهم واحفادهم من مستقبل ارادت له الصهيونية ان يكون صورة او طبعة مهودة من الماضي، واذا به يتحول الى كمين..
قبل اعوام كانت مثل هذه الكتابات اشبه باحزان موضعية كما سماها د. البحراوي في كتابه عن الادب الصهيوني بين حربين.
لكنها الان تتسع وتتمدد وتتحول الى مناخ او مزاج سياسي ليس موضعيا على الاطلاق!!
( الدستور )