كم يلزم من الرمال لدفن رأس أمانة عمان?

بالأمس نشرت "العرب اليوم" رداً من الأمانة على مقال لزميلنا سلامه الدرعاوي انتقد فيه مشروع الباص السريع, وسوف أقتبس فقرة كاملة تقريباً من الرد جاءت بصيغة أسئلة وجهتها الأمانة للزميل سلامه:
"هل يدرك الكاتب الوضع المروري الذي باتت عمان تعاني منه? هل فكّر الكاتب في العبء المالي على المواطن الذي أصبحت تكلفة النقل تثقل كاهله وتأكل دخله المحدود? هل فكّر الكاتب في العبء الاقتصادي على ميزانية الدولة نتيجة الدعم المستمر للمحروقات في ظل اعتماد المواطنين على مركباتهم الخاصة?....". انتهى الاقتباس الذي أجريت عليه بعض الاختصار.
مشروع الباص السريع إذا, جاء لمعالجة مشكلة النقل, وقد ذكر الرد بعض عناصرها. لكن الرد في أفضل الأحوال صيغ بنوايا حسنة, لأن كل ما عرضه حول مشكلة النقل هو من صنع أيدي الأمانة ذاتها:
فهل سألت الأمانة نفسها عن أثر إلغاء مجمع رغدان على مجمل عملية النقل في العاصمة شرقاً وجنوباً? وهل سألت الأمانة نفسها عن الجهة المسؤولة عن المباني الضخمة المقامة في موقع مجمع رغدان القديم ولا تزال فارغة منذ انتهاء المشروع عام 2006? وهل سألت الأمانة نفسها عن حال مجمع المحطة البديل الذي ظلت تقول أنه مؤقت لمدة ثلاث سنوات ثم لم يكلفها الأمر سوى تغيير لوحة إعلانية على المدخل من "مؤقت" الى "دائم"? وهل سألت الأمانة نفسها عن نقل مجمع العبدلي الى طبربور وأثره على تنقل الناس شمالاً وغرباً? وهل سألت الأمانة نفسها عن مصير عشرات الألوف الذين كان يعج بهم مجمعا رغدان والعبدلي ثم اختفوا لأنهم لا يشاهدون في مجمعي المحطة وطبربور? وهل سألت الأمانة نفسها عن أثر خصخصة النقل في عمان ورفع التكلفة على المواطن? وهل تدرك الأمانة ان ظاهرة حشود الركاب الذين يجتمعون في مواقع يختارونها في العاصمة هي من نتائج تلك التغيرات? وهل تدرك الأمانة ان انتشار ظاهرة النقل غير الرسمي من خلال الباصات الصغيرة جاء كحل شعبي لأزمات خلقتها الأمانة باجراءاتها المشار الى نماذج منها فيما سبق?... ويمكن لمن يريد إضافة ما يشاء من الأسئلة الشبيهة. ولكن لنعد قليلاً الى الباص السريع ذاته.
تكفي نظرة واحدة الى الحال البائس لشارع الجامعة وخاصة الى الفتحة الوسطية التي حفرتها آليات الأمانة ثم غادرت وتركت المكان صامتاً. تكفي مثل هذه النظرة للكشف عن بؤس المشروع الذي تعرف الأمانة أنها اضطرت لتصميم بعض مراحله بطريقة "كل يوم بيومه". ولكنها بكل "جرأة" قامت بنشر صورة من الخيال تم رسمها على شاشة الكمبيوتر وكتبت تحتها "هكذا سيكون المشهد", وهو مشهد يستحيل تنفيذه الا إذا طورت الأمانة طريقة لولادة الشوراع. ولكن الأمر لا يتوقف هنا, ذلك أن تصورات الأمانة تتطلب أن تتغير "ثقافة التنقل" بالكامل, وهذا من الأمور التي لا تحصل بقرار, فضلاً عن المصير المجهول الذي ينتظر قطاع النقل القائم حالياً في مناطق الباص السريع لو تم تنفيذه.
ليسمح لي القارئ بالإشارة الى أنني منذ حوالي 15 عاماً اتابع -بحثياً- كثيراً مما له علاقة بالجوانب المتصلة بالناس في عمان وخاصة في وسطها, وقد قمت بالكثير من التقصي عن الأثر الفعلي لبعض ما قامت وتقوم به الأمانة من مشارع للتحديث على مصائر الناس وحياتهم بما في ذلك تنقلهم. إن بعض الناس أصبحوا خبراء في شؤونهم لأن الأمر بالنسبة لهم مسألة حياة, ولا يمكنني ان أنسى "كونترول الباص" الذي بمجرد أن كشفت الأمانة عن المباني الضخمة لمجمع رغدان قال أنه مشروع فاشل, بينما كانت الأمانة حينها تتغنى بالمخططات ذات المستوى الدولي.
إن رد الأمانة يشير الى وجود شهادات دولية بجودة مشروع الباص السريع. ومن جهتي أضيف أيضاً بأن المخطط الشمولي لعمان نال جائزة دولية كبرى, وهذا المخطط هو "ابو كل المشاريع" بما فيها الباص السريع. ولكن هل تعلمون مثلاً أن هذا المخطط معد على أساس أن سكان عمان سيصبحون ستة ملايين ونصف وهو رقم يزيد بمقدار 50% عن التوقعات الحقيقية. كان يفترض لمثل هذا الخطأ أن يجعل الأمانة تستحي لعشر سنوات على الأقل تتوقف فيها عن التخطيط. لكننا نعلم جميعاً أن الجوائز والشهادات تقدم لورق المشاريع لا للمشاريع ذاتها. وبالمناسبة فقد علق أحد خبراء البنك الدولي على المخطط الشمولي متهكماً بالقول إن عدد السكان المفترض فيه يحتاج الى ثلاث أو أربع حروب في المنطقة.
الكلام الذي تجمع لدي خلال 15 عاماً كثير, وهو مؤلم ومحزن ومثير للغثيان لأنه يتصل بتفاصيل يومية لكثيرين التقيتهم...
أيها السادة المخططون, من فضلكم تفضلوا بزيارة واحدة للناس الذين تخططون لهم وباسمهم, ولكن أرجوكم, مؤقتاً على الأقل, أن تتحملوا بأن تكون الزيارة بالباص "البطيء".. ولكم مني جائزة دولية.(العرب اليوم)