خارطة سياسية جديدة

تعبر الأمّة العربية عتبة التغيير المستقبلي الشامل, وتخوض المجتمعات المحلية مواجهات ساخنة وحادة بين تيارات باردة وتيارات ساخنة, وتجليات قديمة وتجليات حديثة, على مستوى القوى السياسية والأحزاب والفاعليات الاجتماعية وتجمعات الشباب الجديدة التي خرجت من رحم مرحلة زمنية قاتمة, شديدة الوطأة وعميقة الجرّاح; ممّا ينبئ بإنشاء حالة ثورية قادمة لها بصماتها الواضحة في عملية صياغة المرحلة الجديدة.
سوف تتغير طبيعة الصراع, وسوف تكون خطوط المواجهة بين قوى الفساد والاستبداد والتخلف من جهة, وقوى الإصلاح والتحرر من الجهة الأخرى أكثر وضوحاً وحسماً.
في المرحلة الجديدة سوف تتغير خارطة التحالفات الحزبية والسياسية وسوف تتغير كل صيغ التحالف والتنسيق التي اقتضتها ظروف المرحلة السابقة التي لم تعد قائمة فنحن الآن أمام مرحلة جديدة سوف تفرض إيقاعها على شبكة العلاقات القائمة بقوة لا تخضع لمنطق العاطفة والرغبة بقدر ما تبحث عن جودة التفاعل مع الحدث والقدرة على إحداث الاستجابة الواعية لمتطلبات المرحلة ومقتضياتها بنجاح.
الأمّة تخوض معركة تحرر حقيقية ضد التسلط والاستبداد تخوضها الجماهير والشعوب, التي صمتت طويلاً وانتظرت طويلاً أمام أنظمة أطلقت الوعود وأبدعت في صياغة الشعارات اللغويّة الرنّانة, لمدة تقارب القرن من الزمان, لتصحو على هدير الزحف نحو الهاوية. وجاءت صيغ سياسية كثيرة ومتعددة من الشرق ومن الغرب, فلا توجد فكرة عالمية إلاّ ولها أتباع وأنصار ومؤيدون, ولا توجد دولة إلاّ ولها مريدون ومتحزبون.
بعضهم حوّل هذه التبعية إلى فكرة سياسية, وبعضهم حوّلها إلى مهنة ووظيفة ووسيلة ارتزاق, وطريقة للحضور والمزاحمة عند الغنائم والأعطيات, وبعضهم يمارس التمثيل وتقمص الأدوار, وبعضهم يمارس التسلية وعدّ أيام العمر المتبقية.
استيقظت الشعوب العربية على أصوات الباعة المتجولين, فبعضهم من يبيع بضاعة كاسدة وفاسدة لم تعد صالحة للاستهلاك البشري, وبعضها مرفوضة في دول المنشأ, وبعضهم يصرّ على رفع صوته لتصليح (بابور الكاز) الذي لم يعد موجوداً حتى في المناطق النائية والأقل حظاً, وبعضهم ما زال يحرس دكاناً قديماً معتماً لم يعد جاذباً للأطفال والبضاعة الموجودة لم تخضع للفحص المخبري منذ فترة طويلة جداً; لكن صاحب الدكان يعتبرها وسيلة للتسلية وتجمع أتراب العمر القدامى أكثر منها وسيلة للعيش, ويسطرون حكايات النضال والبطولة التي لم يعد لها شاهد.
إنّ إدراك الطبيعة الجديدة للصراع القائم, يحتّم على القوى الفاعلة أن تختصر الجهد وتستثمر الزمن بطريقة مثمرة وبأسلوب علمي عملي, لا يخضع لمنطق العجز أو منطق المداهنة والتمثيل, الذي يدلّ على العجز أكثر ممّا يدل على الفطنة والجديّة والاستيعاب.
أعتقد أنّ الكلمة الفصل للجيل الجديد من الشباب والقيادات التي استلهمت الدروس والعبر من كل المراحل والتجارب السابقة, لتشارك بوضع صيغة التحرر التي تعيد لشعوبنا العربية المنكوبة مكانتها الحقيقية, وسلطتها الفعلية, وقوتها الجمعيّة, وهويتها الحضارية والتخلص من حقبة الإقطاع السياسي وتأله الحاكم الذي لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون, لنصل إلى مرتبة البشر العاديين مثل كل البشر الذين يقررون مصيرهم بأنفسهم, ويختارون رجال الحكم والسلطة, ويملكون المؤسسات التي تراقب وتحاسب, وترسي معالم دولة الدستور والقانون الذي يساوي بين جميع أفراد الشعب بعقد اجتماعي متطور, يفرضون فيه شروطهم على المسؤول, ويضعون الضمانات الحقيقية التي تصون الحقوق والحريّات, وتكفل محاسبة الفاسد والعابث بالمال العام, ومقدرات الشعوب بصراحة وحسم.(العرب اليوم)