الوجه الآخر لأميركا
لكل مجتمع إنساني، أياً كانت وسائله لتنظيم شؤونه وعلاقاته بالآخرين، وجوه عدة. والوجه القبيح لأميركا الذي أطل على المعمورة، في السنوات الثماني الماضية، لا يمثل بأي مقياس وجوه جميع الفئات التي يتكون منها الشعب الأميركي. وما هو إلا وجه «المحافظين المجددين». والاسم بالإنكليزية (Neo) وليس (New) مما يرجح أن المعنى المقصود هو «المجددون» وليس «الجدد». وهؤلاء المجددون يختلفون جذرياً عن المحافظين الأميركيين المعروفين في جميع حقب تاريخ أميركا السياسية كالرؤساء ثيودور روزفلت والجنرال أيزنهاور و جورج بوش الأب.
يتكون «المحافظون المجددون» من مسيحيين صهاينة متنطعين (يسميهم عامة الأميركيين بالأصوليين) يرون أن تعاليم الإنجيل تفرض عليهم دعم إسرائيل لتكون دولة قوية حتى يعود المسيح ويتولى حكمها وحكم العالم كافة. وقد تحالف معهم، بل وقادهم، قلة قليلة جداً من اليهود الأميركيين حلفاء أقصى اليمين الإسرائيلي من أمثال بول وولفوفيتز و دوغلاس فيث Feith في وزارة الدفاع و اليوت أبرامز و لويس ليبي في البيت الأبيض وزملاء آخرين من نفس المدرسة السياسية في الخارجية والخزانة ووزارة الأمن الداخلي، وخارج الحكومة في «الوول ستريت جورنال» و «الواشنطن تايمز» ومحطة «فوكس نيوز» وغيرها من صحف وإذاعات يسيطر عليها السيئ السمعة روبرت مردوخ. وهؤلاء اليمينيون اليهود، بالطبع، لا يشاركون المسيحيين الأصوليين معتقداتهم الدينية بقرب نهاية إسرائيل بعد انتصارها الموقت، وإنما استغلوا دعمهم السياسي، لتحقيق الاهداف التوسعية لبقية زملائهم في اليمين الإسرائيلي.
والسؤال، إذا كانت لأميركا وجوه أخرى حسنة، كيف كسب هذا الوجه البشع الانتخابات الأميركية الرئاسية مرتين؟
يرى غالبية المراقبين الأميركيين، أنهم سرقوا الانتخابات في عام 2000 عن طريق حلفائهم الخمسة في المحكمة العليا. أما صاحب الفضل في فوزهم في انتخابات 2004 فهو أسامة بن لادن وصحبه من تلاميذ سيد قطب وعبدالله عزام. فـ «غزوة» نيويورك في عام 2001 رفعت أسهم المتطرفين الأميركيين وأضعفت المعتدلين فضمنت فوز هذه العصابة التي أقنعت الكثيرين بأن «غزوات القاعدة» أثبتت ضرورة وجودها ليس لحماية أميركا فحسب من «الإرهاب الإسلامي» بل العالم أجمع.
ولكن، وكما قال الرئيس الفصيح البليغ العظيم، ابراهام لنكولن: «بالإمكان خداع كل الناس لفترة قصيرة، ويمكن خداع بعضهم كل الوقت، ولكن يتعذر خداع كل الناس لفترة طويلة».
ومع أن السيناتور جون ماكين لم يكن قط محل ثقة قادة «الصحوة المسيحية»، فإن مجرد انتمائه للحزب الجمهوري الذي سيطر عليه «المحافظون المجددون» كان من أهم أسباب هزيمته وهزيمة جمهوريين آخرين من أعضاء مجلس الشيوخ ومجلس النواب وحكام ولايات كان فوزهم في العادة شبه مضمون للجمهوريين.
ولولا أن لأميركا وجوهاً أخرى كثيرة حسنة، لتعذّر انتخاب ابن مهاجر كيني لرئاسة أقوى دولة اقتصادياً وعسكرياً، وفيها ما لا يقل عن مئتي جامعة، هي في طليعة جامعات العالم في العلوم والطب والهندسة. ومع أنها أقدم ديموقراطية فإن المسيطر على غالبية مؤسساتها المؤثرة رجال بيض من أصول أوروبية. ولذلك فإن الكثيرين في داخل أميركا وفي خارجها لم يتوقعوا فوز رجل هاجر والده من كينيا.
إن انتخاب ابن مهاجر أفريقي يكاد يكون من المستحيلات لولا أن الغالبية الساحقة من المتعلمين وممن لم يبلغوا الأربعين دعموا أوباما مالياً ومعنوياً وحملوا الناس في الحافلات وفي سياراتهم الخاصة للتأكد من أنهم يصوتون فعلاً في الانتخابات التمهيدية والأهم أن يصوتوا في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) يوم الانتخابات الفعلية التي أدت إلى فوز أوباما وهزيمة ماكين والنسبة الأكبر من بقية مرشحي الحزب الجمهوري. ومن شبه المؤكد، كما يرى مراقبون أميركيون في مؤسسات فكرية قيادية، أن سوء إدارة ووقاحة «رَبع» نتنياهو في الإدارة الأميركية دفعا غالبية الأمريكيين لدعم رجل وعدهم بالإصلاح الداخلي والخارجي، بعد أن أساءت تلك العصابة إلى سمعة أميركا ليس في العالم العربي وبقية الدول النامية فحسب وإنما أيضاً في اليابان وشمال أوروبا وغربه.
ولا يتوقع أحد من المتابعين من ذوي العلم فوز أحد أبناء المهاجرين الأفريقيين بالرئاسة في بلد ديموقراطي غربي آخر من دول أوروبا المهمة كبريطانيا وألمانيا وفرنسا وأسبانيا وإيطاليا في المستقبل القريب أو المنظور.
هل هذا يعني أن إدارة أوباما ستكون محايدة تماماً بالنسبة إلى مأساة الشعب الفلسطيني التي باسمها وصل إلى الحكم ضباط انقلابيون ومستبدون وحزبيون مؤدلجون امتهنوا التجارة بدماء الأبرياء سعياً وراء السلطة مهما كان ثمن الوصول إليها؟
بإيجاز لن يكون أوباما محايداً بنفس الدرجة التي نتمناها، لاعتبارات أميركية محلية، لأن ثمن الحياد المطلق هو الخسارة السياسية المطلقة التي تمنعه من تحقيق ما وعد به داخلياً. واختياره للسيناتور السابق جورج ميتشل ليكون مبعوثه، إلى الشرق الأوسط يوحي بخير، لأن السيناتور ميتشل مفاوض قدير محايد. وإن لم ينجح أوباما في تحقيق سلام عادل على أساس المبادرة العربية فلن يكون نجاح غيره أمراً محتملاً.
وحتى لو أن الرئيس الأميركي أوباما أو غيره يتمتع بالدعم السياسي المطلق من غالبية الأميركيين ليفعل ما يشاء لحل هذه المأساة المزمنة، فإن جميع الحلول ستفشل ويتعذر تنفيذها ما دامت توجد فئات وأحزاب فلسطينية لا تقبل بالمبادرة العربية كقاعدة ينطلق منها حل القضية الفلسطينية.
والله من وراء القصد.
* أكاديمي سعودي
الحياة