مرة أخرى عن غزة و«الكريدور الأمني الرخو»

حرصت الولايات المتحدة على تذكير مصر بـ»واجبها» في حفظ حدودها مع الدولة العبرية، لتكرر بذلك مطالبات انطلقت من إسرائيل منذ اللحظة الأولى لتوارد الأنباء عن العملية في «النقب/إيلات»...لكن ساسة إسرائيل وإعلاميها وأمنييها، ذهبوا أبعد من ذلك في تحميل مصر مسؤولية العملية غير المسبوقة، بأن صوّرها «دولة فاشلة»، غير قادرة على حفظ حفظ الأمن والسيادة والاستقرار داخل حدودها، واستتباعا، عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه «جارتها».
من يقرأ صحف إسرائيل وتعليقات كتابها وصحفييها على العملية، يلحظ من دون عناء، ذلك الربط الاستثنائي التعسفي، بين العملية وسقوط نظام مبارك...والحقيقة أن وجود نظام مبارك، حتى وهو في ذروة «هيمنته»، لم يمنع من تحول سيناء والخليج وإيلات وطابا والمنتجعات، وصولاً إلى النقب وأطراف غزة، من أن تصبح «كريدوراً أمنياً رخواً» كما أسميناه قبل عدة سنوات من الآن، وليس الآن أو قبل بضعة أيام.
لقد سعت القاعدة، أو «الجهاد العالمي» وفقاً للتعبير الأثير على قلوب محرري الصحف الإسرائيلية، في ضرب البنية السياحية والاستثمارية في شرم الشيخ وإيلات والعقبة وطابا...وهي ضربت مواقع وأهدافا أمنية مصرية، لم يكن الهجوم على العريش مؤخراً سوى امتداد لعمليات كر وفر، بين «الجهاد العالمي» المبثوث في ثنايا البيئة البدوية لسيناء من جهة، وقوات النظام المصري وأجهزته الأمنية...ما يجعلنا نقطع بأن عمليات إيلات/ النقب بالأمس، هي استمرار لذاك المسلسل، الذي بدأ فصولاً عندما كان مبارك متربعا على عرش الفراعنة في مصر، وأن ليس للأمر صلة بـ»استلقاء» الرئيس المخلوع على سرير المرض، وخلف قضبان المحكمة.
نحن لا ندري إلى الآن على وجه اليقين، ما إذا كانت العملية المزدوجة والاحترافية، هي إحدى «مخرجات» الوضع الفلسطيني وتبدلات القوى وتحولاتها في غزة، أم أنها ثمرة لتطور بيئة وبنية «الجهاد العالمي» في سيناء...أم أنها، وهذا احتمال ثالث، قد تكون ثمرة لتلاقح وتبادل منافع وخبرات وتنسيق، بين أصولية فلسطينية تنمو في القطاع، بالضد من إرادة حماس وحكمها وحكومتها، وأصولية جهادية، تبحث عن صلات القربي وأواصر التقارب مع نظيرتها في فلسطين...في كل الأحوال، لم نعرف شيئا جوهرياً بعد، عن نتائج التحقيقات، وإن كنّا نرجح الاحتمال الثالث الذي أشرنا إليه.
لكن في مطلق الأحوال، فإن أحداً ليس بمقدوره أن ينكر أن سيناء قد تحولت منذ سنوات، إلى حاضنة لقوى التطرف الأصولي ... وأن للأمر صلة بواقع المنطقة الجغرافي والديمقراطي والاقتصادي /الاجتماعي...فالمنطقة تعد تاريخيا، «مفترق طرق» للتهريب والمهربين، تقع على شواطئ»بحرين» بخليجيهما وقناتهما، ومفتوحة على صحاري وقفار تمتد من بادية الشام والصحراء العراقية والسعودية، وتضرب جنوبا حتى السودان، ولا تنتهي عند الصحراء الليبية.... والمنطقة تتسم ببنيتها القبلية «المترحلة» وتداخل روابط النسب وعلاقة القرابة والمصائر بين القبائل والعشائر المنتشرة فيها...والمنطقة عانت من التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولم يشعر سكانها يوماً بعمق ارتباطهم بالدولة المصرية، ولم يشعر كثرة من المصريين بأن هذه المنطقة، هي جزء محوري من بنيتهم الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى أنه يندر أن تجد رواية تدور أحداثها في هذه المنطقة، أو فيلماً يتحدث عن سكانها، خارج إطار أفلام الحرب ومسلسلات الجاسوسية.
وتوفر هذه المنطقة، لبعض الجماعات الأصولية الجهادية في القطاع، وتلك المنشقة عن حركة حماس والمتمردة على قيادتها وحكومتها وكتائبها، قاعدة إسناد خلفية، يمكن أن تعطي لهذه القوى، «مجالاً حيوياً أرحب لنشاطها وحركتها.
إسرائيل تدرك ذلك جيداً، وهي في ردات فعلها على العملية، كانت حريصة على استبعاد أن يكون لحماس علاقة أو حتى معرفة، بما جرى، ولكن لإسرائيل مصلحة في أن تحمل حماس المسؤولية عن العملية، طالما أنها المسؤولة عن قطاع غزة، وبحكم مسؤوليتها هذه، ودائما من أجل تحقيق هدفين اثنين: الأول، تبرير العمليات الانتقامية والثأرية المؤلمة والموجعة ضد القطاع، والتي يبدو نتنياهو بأشد الحاجة لها للهروب إلى الأمام من أزماته المحلية (التظاهرات المتصاعدة، الخلاف مع واشنطن، الانتقادات لإفلاسه السياسي أمام استحقاق أيلول وغير ذلك)...أما الهدف الثاني، فهو حث حماس على بذل جهود أكبر لتأمين حدود قطاع غزة مع إسرائيل، ومنع أي مجموعة فلسطينية من المس بهذه الحدود، أو الخروج من قطاع غزة، للقيام بعمليات ضد إسرائيل، حتى من مناطق أخرى، بعيدة عن القطاع، وهنا تتجلى لنا الرغبة الإسرائيلية المتأصلة، في تحويل الجيوش العربية (بما فيها جيش حماس) إلى قوات حرس حدود لها، والمفارقة أن المطالبات الإسرائيلية لإسرائيل وحكومة الأمر الواقع بضبط الأمن، يتزامن مع تخفيضات في أعداد القوات الإسرائيلية المنتشرة على طول الحدود وعرضها، لقد استمرأت إسرائيل لعبة إجبارنا على حماية حدودها، أو بالأحرى، الحصول على هذه الحماية، بأدنى سعر وأقل ثمن؟!
من الناحية الجوهرية، لا يبدو أن إسرائيل راغبة في الخروج إلى حرب على قطاع غزة، ولا حماس راغبة في الإنزلاق إلى حرب سابقة لأوانها مع إسرائيل، وهذا يدعونا للاعتقاد بأن «التصعيد الأخير» سيظل في إطاره التكتيتكي، ما لم يفاجئنا «الجهاد العالمي» بقوة حضوره في غزة وسيناء، كما فاجأنا بقوة حضوره في كثير من البؤر والمناطق الطرفية السورية...وإن غدا لناظره قريب.(الدستور)