كفى قضما لاكتاف الموتى

أسوأ ما يحدث الآن وربما في كل أوان هو تصفية الحسابات الصغرى سواء مع أنظمة سياسية أو مع معارضيها، بحيث يذكرنا البعض ممن يتحولون إلى راديكاليين رغم انهم أكثر رخاوة من جذر ذابل في كل مواقفهم بالمشهد الكوميدي للشاعر بودلير عندما شاهده جيرانه يحمل بندقية ويهبط السلالم متجها الى الشارع، وهو الاداندي كما كان يسمى والذي لا علاقة له بالمظاهرات والحروب، وحين سأله أحدهم عما إذا كان ذاهبا للحرب او الاحتجاج.. أجاب بانها فرصة لتصفية الحساب مع الجنرال اوبيك الذي تزوج امه رغما عنه!
وقد يكون لكل بودلير جنراله وزوج امه الذي يبحث عنه بين الجموع، وذلك على امتداد التاريخ وليس في ايامنا فقط..
الحسابات الصغرى لا تقيم وزنا للدماء ولا للاوطان لان من يمارسونها يصابون بالعمى والصمم الا عن تلك الحسابات، ما تأجل منها أو ما كان ذات يوم عاجلا.
بدءا ما من سبيل لتبرير عنف الانظمة ازاء شعوبها غير الراغبة في بقائها، وما من شيء يبرر الاستبداد حتى لو كان من طراز الاطروحات العربية البائدة التي قالت يوما ان الاستبداد مبرر إذا كان من اجل الاوطان، وقد اندثرت بالفعل تلك الثنائية التي صورت كالقدر وهي اما الاستبداد المحلي او الاحتلال الاجنبي، فالشعوب تستطيع إذا امتلكت امرها ان تقاوم بفوهتين وان تكون ضد خندقين معا، لان الاستبداد والاحتلال بينهما علاقة شرطية في العمق وليسا متناقضين كما يبدو على سطح المشهد لكن من تحركهم الحسابات الصغرى لا يصعب فرز رائحة ما يكتبون لان الاقنعة التي يرتدونها مستعارة ومهترئة ومليئة بالثقوب بحيث يسهل التعرف على الوجه الاصلي وراءها!
نعرف ان الساحة العربية الآن نموذجية لازدهار ثقافة التخوين المتبادل، وادعاء البعض بانهم كانوا طوال حياتهم يزأرون ويصهلون لكن لم نكن نسمعهم والحقيقة ان مواءهم وفحيحهم يملأ آذاننا لكن لا بأس.. لتكن هذه الفترة الانتقالية مجالا حيويا لتسديد المديونيات النفسية ما دام ربيب نظام ما والذي كان الذراع الايمن للديكتاور قد لف جسده بعباءة ابن الخطاب، وتاب بعد ان شاب!
لا ايها السادة، سواء كنتم ساسة متقاعدين او ميتين سريريا او مثقفين قضموا الاكتاف كلها.. فالناس لم يفقدوا الذاكرة بعد ولم يتحول الزهايمر السياسي الى وباء قومي.
ومن فقد اصابعه لانه كتب او رسم ليس كمن ملأت اصابعه خواتم الماس لانه وشى بزميله واحيانا بتوأمه.
عما قريب ستوضع نقطة في آخر السطر ولو كانت من دم.. ويتضح الخيط الأسود من الخيط الأحمر حيث لا بياض في كل الخطوط ويقف اصحاب الحسابات الصغرى جانبا يحصون غنائمهم، ولحظتها سيتحول لهم اليتيم والثاكل والشريد انهم الضباع التي اتت على اشلائهم ونخاعهم بعد ان فرغت الاسود والنمور منها، كفى قضما لاكتاف الموتى، وكفى هرولة كاذبة لان الجنرال تزوج الام رغما عن ابنها الوحيد.. فالعالم الذي ننتسب اليه هوية وعرقا وثقافة ووجدانا ينزف على مدار اللحظة.. والناس شبوا عن الاطواق كلها ويستطيعون التفريق بين من يبكي على الامام ومن يبكي على "الهريسة"!!