عن واشنطن و«الإخوان» و«ربيع العرب»

لا يبدو أن القلق يجتاح واشنطن من مغبة تفشي "البعبع الإسلامي" وتنامي احتمالات وصول الإسلام السياسي للسلطة في عدد من دول "الربيع العربي"...أكثر ما يقلق "نظرية الأمن الأمريكي" هو نجاح القاعدة تحت جنح هذا الربيع، في انتزاع ملاذات آمنة جديدة لها، وبالأخص في اليمن وليبيا، وبدرجة أقل في سوريا، وهذا ما تعمل على تفاديه، سواء بدعم بعض النظم القائمة أو تأجيل سقوط بعض النظم المهتزة، أو اتخاذ ما يلزم من تدابير في الدول التي ودّعت حكامها الدكتاتوريين.
وأنت تتابع ما يقال في "بيوتات" الفكر والتفكير في واشنطن، تلحظ جملة من المسائل، من بينها أن فريقاً واسعاً من الخبراء والمحللين، يستبعد وصول الإسلام السياسي للسلطة أولاً...وثانياً، أن انتخابات حرة ونزيهة، لن تعطي الإخوان المسلمين وحلفاءهم من تيار الإسلام السياسي، أزيد من 30 بالمائة من المقاعد في مصر على سبيل المثال، وربما أقل منها في تونس، وكذا الحال في بقية الدول العربية...أما ثالثاً، وهنا مربط الفرس، فإن حوارات واشنطن واتصالاتها مع الإسلاميين، قد أشاعت قدراً واسعاً من الطمأنينة والاطمئنان.
لا يبدو أن أيا من فرقاء "الإسلام السياسي" قد شدد أو حتى ألمح أمام محاوريه "الأميركان"، بأنه ينوي اتباع القول بالفعل، والتخلص من "معاهدات السلام" في الحالة المصرية على سبيل المثال...أو أنه ينوي الذهاب بعيداً في خيار "المقاومة" و"الممانعة"، أو إشعال جبهة الجولان، كما في الحالة السورية...وأن معظم الإسلاميين، يتحدثون عن السلام مع إسرائيل بوصفه الخيار، ولكن بقليل أو كثير من التشديد على "العدل" والكرامة" و"التعامل بالمثل" إلى غير ما هنالك من "ملحقات" يمكن احتمالها، هدفها "تمييز" مواقفهم عن مواقف حكامهم المتصفة بالتهافت والتخاذل.
لقد كان السلوك الهادئ للإخوان المسلمين المصريين في غير واقعة وموقعة منذ سقوط نظام مبارك لافتاً للانتباه بشدة...لم يعد معبر رفح، قضية تشغل البال كثيرا، حتى حين وجد الفلسطينيون أن الحال عليه لم يتغير كثيراً....لم ينخرط الإخوان المسلمون على نطاق جدي في مظاهرات الغضب ضد إسرائيل واستنكار جريمة قتل الجنود المصريين...لم نعد نرى الكثير من الرايات المطالبة بإلغاء المعاهدة وطرد السفير وإغلاق السفارة...الأمور أهدأ من ذلك بكثير.
في سوريا، يبدو الوضع أكثر وضوحاً...فالعداء المستحكم بين جماعة الإخوان والنظام القائم في دمشق، دفع الأولى على ما يبدو للعمل بنظرية "عدو عدوي..."، فكل الأطراف المحسوبة على "الممانعة والمقاومة" تتلقى وابلاً من الانتقادات من قبل الجماعة، وبالتحديد إيران وحزب الله، ولقد وجد موقف إخوان سوريا صدى في مواقف إخوان في عدد من الدول العربية، الذين لم يتوانوا بدورهم عن كيل الانتقادات لأطراف ظلت حتى الأمس القريب محسوبة على "المقاومة والممانعة".
لقد أصبح الموقف من النظام السوري، وليس من "المقاومة" هو الحكم والميزان الذي تبني عليه الجماعة في أماكن انتشارها المختلفة موقفها، وإن بقدر من التفاوت بين "قُطر" وآخر...ولا أدري كيف سيقاوم هؤلاء و"يمانعون" و"يتمنعون" في قادمات الأيام، من دون التحالف مع قوى لطالما احتسبوها على محور المقاومة، وأشادوا بمواقفها الصلبة والشجاعة بل والتاريخية.
مثل هذا التحول في "المزاج الإخواني" العام، مريح جداً لواشنطن وتل أبيب وجماعات الضغط إياها...لقد قرأنا واستمعنا إلى أحاديث أمريكية تعكس مناخات الاطمئنان لا على مستقبل إسرائيل والنفط وطرق إمداده، بل وعلى نتائج ومآلات الحرب على الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل وغيرها...وهذه هي باختصار، المصالح الأمريكية الرئيسة في المنطقة برمتها....ويبدو أن هناك من أعطى وعوداً كبيرة بحفظ هذه المصالح وصونها، وربما بأفضل مما كان زمن النظم الساقطة أو الآيلة للسقوط... يبدو أن هناك من أتبع فعلا القول بالفعل: سلوك الإخوان "المنضبط" في مصر ما بعد مبارك، وانخراط إخوان سوريا في تحالفات لا تخرج عن دائرة الولايات المتحدة والغرب وتركيا والاعتدال العربي، وانضمامها إلى حملات النقد والاتهام الموجهة للمعسكر الآخر...ما الذي تريده واشنطن أكثر من ذلك؟...أليس المهم حفظ المصالح لا من يحفظها، جرياً على نظرية العنب والناطور؟!
والحقيقة أنني لم أجد تفسيرا لسر التعامل الإسرائيلي مع ملف تغيير النظام في سوريا، والذي كان من قبل هاجساً وشاغلاً لنظرية الأمن الإسرائيلية، إلا بعد الاطلاع عن كثب على بعض ما يدور في الأروقة الأمريكية، فالاطمئنان الإسرائيلي ليس سوى رجع صدى للاطمئنان الأمريكي لاتجاهات تحوّل مواقف الإسلام السياسي العربي عموماً.
لكن مع ذلك، يلحظ المستمع المصغي والقارئ المتفحص لآراء بعض الخبراء، بأن ثمة "قدر من الحيطة والحذر" ما زال كامناً تحت سطح الاطمئنان والطمأنينة الأمريكيين، وأن العقل الأمريكي ما زال مسكوناً بسؤال رئيس: هل مواقف الإسلام السياسي هذه واليوم، نهائية أم أننا أمام "تُقية سنيّة" أكثر براعة وإتقاناً من مثيلتها الشيعية؟...هل "يتمسكن الإخوان حتى يتمكنون"...هذه هي الترجمة الشعبية لأحد أهم أسئلة واشنطن، إن لم نقل أهمها على الإطلاق.(الدستور)