«العمائم المفخخة»

في العام 1996، أطاحت حركة طالبان الباشتونية، بحكم الرئيس الطاجيكي برهان الدين رباني الذي وجد نفسه مترحلاً بين قبائل الشمال ومناطقه طوال السنوات الخمس التالية وحتى العام 2001، عندما أطاحت القوات الأمريكية بحكم طالبان/ القاعدة، إثر احداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر وكردة فعل عليها، فكان رباني من أوائل العائدين إلى كابول.. حاول الرجل أن يستأنف حكمه من حيث انقطع، لكن «إرادة الغرب» و»اللوياجيركا» لم تقبل برئيس «أقلوي» لحكم البلاد، فجاءت بالباشتوني الأنيق حامد كرزاي، وانتبذ الرجل لنفسه مكاناً قصياً عن سدة الحكم والزعامة، واكتفى برعاية السلم الأهلي والتوسط من أجل إحلاله.
لم تكتف طالبان بقتل الرجل سياسياً كما فعلت قبل خمسة عشر عاما.. بل عملت ما بوسعها على إزاحته جسدياً عن مسرح الأحداث والحياة.. وبعثت إليه برجلٍ يسعى في الصلح والمصالحة، مخبئاً تحت عمامته قنبلتين موقوتتين: الأولى كانت خبيئةً في تلافيف العمامة.. أما الثانية فكانت مبثوثة في تلافيف دفاغه المفخخ بالأفكار الانتحارية والاستئصالية.
والملاحظ أن هذه هي المرة الثانية في غضون شهرين اثنين فقط، التي تستخدم فيها حركة طالبان «العمامات المفخخة» للنيل من خصومها.. ففي السابع والعشرين من تموز/ يوليو تدثّر انتحاري بعمامة مفخخة للإطاحة برئيس بلدية قندهار غلام حميدي.. وفي الثلاثين من أيلول/ سبتمبر أطاحت عمامة مفخخة أخرى بثاني رئيس لأفغانستان بعد هزيمة الاتحاد السوفياتي وسقوط النظام الشيوعي في كابول.. الرئيس الأول كان صبغة الله مجددي الذي لم يعمر في منصبه طويلا على أية حال.
والحقيقة أن فكرة تفخيخ الرأس والعمامة مثيرة للقشعريرة في النفوس والعروق والفرائص، بقدر ما هي مثيرة للأسئلة والتساؤلات الفضولية حول الدوافع التي تحمل رجلاً على تحويل رأسه وجمجمته إلى «قنبلة موقوتة».. لقد سمعنا عن أحزمة ناسفة تمنطق بها كثيرون.. ورأينا «مجاهدين» يحملون على ظهورهم حقائب ملغّمة.. وقرأنا عن تهريب مواد متفجرة في مناطق حساسة من الجسم.. كل ذلك كان يثير لدينا باستمرار الفضول للتعرف على دوافع «الفاعل» والسبب الذي يحمله على فعل فعلته.. لكننا لم نتخيل يوماً أن يجعل رجل من رأسه قنبلة للتخلص من رئيس بلدية، أو من وسيط سلام، حتى وإن كان هدف كهذا مزعجا أو غير نزيه، أو في الخندق المعادي.
أنت تحتاج لعقل مفخخ بكل التطرف والأفكار السوداء لكي تغلّفه بحزام ناسف وتحيله إلى قنبلة.. ولهذا السبب قلنا أن انتحاريي هذا الطراز من العمليات، استخدموا في عملياتهم قنبلتين لا قنبلة واحدة: القنبلة الموقوتة والعقل المفخخ التي يحملها.. وفي ظني أننا أمام ذروة غير مسبوقة في عمليات «غسل الدماغ» وإلغاء العقل وتدمير المنطق.
نحن لا نتحدث عن رباني أو دوره.. بل ولسنا من المتابعين لما يفعله الرجل.. والأرجح أننا لن نفتح بيوت العزاء أو نشق الخدود على رحيله.. الأمر منذ «الجهاد الأفغاني ضد الخطر الأحمر» لم يعد يعنينا من قريب أو بعيد، ولدينا ما هو أكثر أهمية لننشغل به.. لكن فكرة تفخيخ الدماغ واستخدامه كقنبلة، أمر يستوقنا لجهة تتبع مآلات وتحولات البشر المنخطرين في صراعات سياسية وايديولوجية ودينية شديدة الضراوة.
بالنسبة لكثيرين، فإن اغتيال رباني، لا يعادله في تاريخ الاغتيالات الطالبانية، سوى اغتيال أحمد شاه مسعود، الملقب بـ»أسد بانشير»، قبيل الغزو الأمريكي لأفغانستان بأيام قلائل.. عملية اغتيال الأولى وجِدَت تفاصيلها على «لاب توب» للظواهري في احد معاقل القاعدة أثناء الحرب.. أما تفاصيل هذه العملية وأهدافها، فقد يمر وقت قبل أن نعرف الكثير عنها.
لكن مراقبين للمشهد الأفغاني، يدرجون اغتيال رباني في سياق الانقسامات الداخلية في طالبان، بين صقور متشددين يرفضون الحوار والمصالحة.. وحمائم معتدلين يتجهون للحوار مع الأمريكيين وحلفائهم، ويتخذون من الدوحة منصة لاتصالاتهم السرية والمعلنة التي ترعاها قطر، وبتشجيع أمريكي منهمك في البحث عن مخارج من «المستنقع الأفغاني».
أياً يكن من أمر، فإن اغتيال الرجل في قلب «المربع الأمني» أو عقر «المنطقة الخضراء الأفغانية»، ينهض شاهداً على فشل نظام كرزاي ومانحيه وداعميه.. ويعد دلالة على الدور المتزايد لطالبان ويدها الطولى في طول البلاد وعرضها.. فأفغانستان بعد عشر سنوات على سقوطها في يد الأمريكان وتحالفهم الكوني، تبدو اليوم أبعد بكثير من أن تصبح محميةً أمريكية، وطالبان التي أريد لإمارتها الإسلامية أن تخرج من جغرافيا المنطقة، تعود إلى كابول من قلب الديموغرافيا الباشتونية، والصراع في أفغانستان وعليها، يبدو اليوم، كما كان منذ سنوات وعقود طوال، صراعٌ لا نهاية له، لكأننا أمام حرب المائة عام، التي لا يبدو أنها ستضع أوزارها في الأفق المنظور.(الدستور)