الزعماء العرب والفهم المتأخر

في العقود الماضية, شعر الزعماء العرب بالاسترخاء, ومدوا أرجلهم طويلاً, بل رفعوها إلى مستوى أعلى من رؤوسهم استجابةً لنصائح أطبائهم من أجل الحصول على قدر أكبر من الراحة والاسترخاء والنسيان, بعيداً عن كل أسباب الإزعاج وعوامل التوتر, وأحاطوا أنفسهم بالمستشارين من كل التخصصات ومن كلّ الأجناس, ومن أولئك الذين يجيدون الحديث والبروتوكول, القائم على معرفة عميقة بنفسية الزعيم ومزاجه وميوله, واتجاهاته الفكرية إذا بقي لها مجال.
ولمزيد من الراحة يقتضي الامر مزيداً من العزلة والابتعاد عن طلبات الرعاع وحاجاتهم التي لا تنتهي ولا تنقضي, وتأتي النصائح تباعاً دائماً وباستمرار " يا سيدي لا تفتح الباب"; حتى لا يتجرأ الطامعون ويتجرأ المغامرون, وتقل هيبة المسؤول, وتفلس الخزينة.
ومع طول الزمن تعوّد الزعماء على الراحة, واكتفوا بنصائح المقربين وما عادوا يسمعون أنّات المعذبين, وصولات المخربين, ولم تعد آذانهم تستقبل إلاّ تلاوة تقارير الطمأنة على سكوت الأغلبية الساحقة, وتفتيت قوى المعارضة, وتأديب القلّة التي لا يجدي معها الخطاب العادي, واللغة المهذبة, وأسلوب اللين, وتمّ حجب المعلومات المزعجة حتى لا ترفع درجة الضغط والتوتر لديهم, وتمّ التغافل عن صوت معاول الخراب التي تدك جدران الإعمار, وتخترق القواعد والأسس وتؤذن بالانهيار.
الزعماء العرب أصرّوا على عدم فهم الحقيقة المرّة وتعاموا عنها, وما زالوا يصرّون على عدم الفهم الصحيح, ويلوذون بالطرق الالتفافية الطويلة المملة التي تدور في متاهة تضييع الوقت والتلاعب بالزمن, ومن فهم منهم, لم تأته لحظة الفهم إلاّ في الأوقات الضائعة التي لا ينفع معها الفهم ولا يجدي الندم, ولا مكانة للشفاعة حينئدٍ ولا قيمة للمعذرة.
وهناك مشكلة أخرى مزمنة لدى بعض الزعماء, الذين بالغوا في تقدير أنفسهم تحت طائلة مدح المتزلفين, وشعر الفاسدين, وتملق المتسلقين من صيادي المكافآت, ونهّازي الفرص الثمينة, وتطور المرض لديهم حتى أكسبهم قسطاً كبيراً من المبالغة في تقليل قدر شعوبهم والاستخفاف بقدراتهم, وأنّهم عبارة عن مجاميع من البلهاء والسذّج مع قليل من الطامعين الطامحين, الذين يسعون إلى مجد شخصي, وموقع فردي يسهل شراؤهم بالقليل.
هل تعي الفئة المتبقية من الزعماء العرب, أنّهم أمام ثورة وعي تجتاح الإقليم والمنطقة, وأنّهم أمام ثورة في القيم والمفاهيم, وثورة ثقافية كبيرة وواسعة, تنتشر كالنّار في الهشيم, ترتكز على مجموعة من المضامين الكبيرة والأصول العريضة, التي تتمحور حول حق المجموع العام في الحريّة والكرامة, والإرادة الجمعية السائدة, وامتلاك السلطة الكاملة في الاختيار والمحاسبة, والملكية العامّة للمقدرات, وبسط الرقابة الشعبية الصارمة على الخزينة العامّة وممتلكات الدولة.
هل تعي البقية الباقية من الزعماء العرب أنّهم أمام ثورة جيل يشعر بالانتماء إلى حضارة عريقة وثقافة سامية ضائعة بسبب تخاذلهم عن نصرة عروبتهم وإسلامهم, وبسبب انسياقهم الذليل خلف قوى الاستعمار والتغريب وبسبب رضاهم بالتبعية لأعداء الأمّة التاريخيين الذين خططوا لضياع هويتها وتمزيق وحدتها وهدر ثرواتها, وهدم قيمها, وطمس معالم مشروع نهضتها.
لقد أدركت الأجيال فن اللعبة, وأدركت تماماً معنى الممانعة بالجعجعة, والإصلاح بالجعجعة, والنهضة بالجعجعة.
لقد سبقت الشعوب العربية زعماءها بالفهم, وسبقت العامّة النخب في الوقوف على الحقيقة العارية عن الزيف وفن الارتزاق.
(العرب اليوم)