المثقفون والسلطة في سوريا.. شهادة شخصية

تأخذنا الأزمة السورية إلى بعض التجارب والذكريات “الطازجة”، ننتقي منها ما يكفي فقط، للإضاءة على الكيفية التي يتعامل فيها النظام، مع مثقفي سوريا ومفكريها، قبل وبعد “المؤامرة” التي تعرض “القطر” لثنيه عن موقفه “المقاوم والممانع”، وفقاً للرواية الرسمية، وبالأخص، طبعاتها المحلية الأكثر تهافتاً في الأردن ولبنان.
في العام 2005، كان السيد كمال اللبواني، الذي أفرج عنه مؤخراً، بعد أن أمضى سنوات ست في السجن، من بين خمسين شخصية سياسية عربية دولية، دعاها مركز القدس للدراسات السياسية للمشاركة في مؤتمر في عمان، عُقد تحت عنوان “نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني”، اللبواني رحب بالدعوة وأكد على المشاركة، لكن اتصالنا به انقطع فجأة، قبل أن يخبرنا أهل بيته، بأن زوّار الفجر، اقتادوه إلى حيث سيمكث ست سنوات خلف القبضان وفي الأقبية المعتمة، اللبواني ضبط متلبساً بالقلم والورقة، وقيل أيضاً أنه ضبط بحوزته لاب توب وتلفون خلوي وخط انترنت، وجميعها كما هو معروف “أدوات للمؤامرة والتآمر”، أربعة مؤتمرات عقدت من ضمن السلسلة ذاتها، وتحت العنوان ذاته، ولم يتمكن اللبواني من أن يشارك في أي منها، نبارك له حريته، ونحمد الله على سلامته.
بعدها بفترة وجيزة، كان أكرم البني يشارك في عمان، في مؤتمر تأسيسي لـ”شبكة الإصلاح والتغيير الديمقراطية في العالم العربي”، نظمه مركز مركز القدس للدراسات السياسية، ولقد كان حضوره مثيراً للانطباع حقاً، حتى أنه أختير ليكون ممثلا عن سوريا في لجنة المتابعة المنبثقة عن المؤتمر، البني لم يتمكن من حضور أي من اجتماعات اللجنة أو مؤتمرات الشبكة اللاحقة، والسبب أنه اقتيد هو الآخر، إلى حيث كان يقبع كمال اللبواني، وظل هناك حتى أفرج عنه، مؤخرا، ليكمل بذلك عقدين كاملين من الاعتقالات المتعاقبة.
في أواخر آذار الفائت، وقبل أن تتفاقم “الثورة/ المؤامرة” في سوريا وعليها، كان الأستاذ عمر كوش، يشارك في “أيام دراسية”، نظمها مركز القدس للدراسات السياسية إلى أنقرة، لإطلاع عشرات المشاركين من 16 دولة عربية، من نواب وأكاديميين وقادة أحزاب سياسية، على بعض فصول وأوجه التجربة التركية، ولقد كان حضور الأستاذ كوش هادئاً ونبيلاً، لكأن الرجل في “عقله الباطن” كان يدرك ما ينتظره في رحلة العودة، اتصلنا به للاطمئنان عليه، فإذا بزوجته الفاضلة تخبرنا، بأن زوجها التحق بركب الألوف الذي أغلقت خلفهم أبواب السجون والزنازين، لطف الله بالأستاذ كوش، ولم يمض سوى أسابيع ثلاثة عجافا في السجن، أي أنه قضى في “بيت خالته” ثلاثة أيام مقابل كل يوم دراسي قضاه معنا في تركيا، والجرم أنه كان في تركيا حيث تحاك” المؤامرات” وتنسج “الشباك” لـ”القطر” و”القطرية”.
قبل أسابيع، وجّه المركز ذاته، رقاع الدعوة لعدد وافر من نشطاء المعارضة السورية في الداخل للمشاركة في مؤتمر نظمه في عمان حول “ربيع العرب”، تحمس الأخوة والأصدقاء والزملاء للمشاركة، وحزموا حقائبهم، لكن أياً منهم لم يتمكن من مغادرة الأراضي السورية، إذ جاءت التعليمات بمنع السفر، خصوصا إلى الأردن، الذي يصنف في عداد الدول المعادية على ما يبدو، شأنه في ذلك شأن تركيا، هؤلاء المعارضون/ المتآمرون، ظلوا هدفاً للاعتقال والملاحقة والتهديد، قبل أن تنبثق معارضة أشد تطرفاً، فيطلق على أصدقائنا اسم “المعارضة الوطنية”، هؤلاء لم يكتسبوا صفة الوطنية، إلا بعد أن امتشقت “معارضات” أخرى السلاح وشعار “إرحل، إرحل يا بشار”.
هذا ما يحضرني، من الذاكرة “الطازجة” و”التجربة الشخصية”خلال سنوات “الانفتاح” الخمس الأخيرة فقط، والمؤكد أنه غيضٌ من فيضِ ما كان مثقفو سوريا ومفكروها يواجهونه من قبل نظامهم، وكلي ثقة بأن مئات القصص والحكايا الأشد قسوة، يمكن أن يرويها آخرون عن تجارب أشد هولاً وفظاعة مما ذكرت، وأنا أعرف الكثير من هذه القصص التي لم أكن طرفاً فيها، لكني في هذه العجالة آثرت أن أقدم “شهادة شخصية” لا أكثر ولا أقل.
إن كانت “المؤامرة” التي تتعرض لها سوريا، هي من طراز ما يفكر به اللبواني والبني وكوش وعشرات من أقرانهم وزملائهم، فأهلا بـ”المؤامرة” ومرحى بـ”المتآمرين”، هؤلاء وأقرانهم كعارف دليلة وميشيل كيلو وحسين العدوات وفايز سارة وعشرات من المفكرين الذين أعتذر عن ذكر أسمائهم لضيق المساحة والمكان، هم ضمير وصوتها وشرفها، هؤلاء ومئات المناضلين الذين أكلت السجون زهرة شبابهم وقصفت أعمار الكثيرين منهم، هم وجه سوريا المشرق، أما المؤامرة فهي في تغييبهم، والمتآمرون على سوريا هم من قرروا إقصاءهم إلى أقبية الزنازين ودنيا المنافي وتراب القبور، هكذا هي المعادلة، بكل بساطة، لا أكثر ولا أقل.
(الدستور)