«البريسترويكا» التركية والاختبار السوري

تنتصب الأزمة السورية في وجه القيادة التركية بوصفها اختباراً كبيراً لكل ما جاء به حزب العدالة والتنمية...لكل ما قامت عليه “الأردوغانية” في البعدين الداخلي والخارجي للسياسة التركية المعاصرة...ولهذا يقف صناع القرار في أنقرة على وتر مشدود حين يتصل الأمر بالموقف من سوريا...لهذا تحضر سوريا بقوة في كل “قرنة” و”زاوية” من “قرن” و”زوايا” صنع القرار التركي.
في سوريا، أكثر من غيرها، سقطت نظرية “صفر مشاكل” التي شكلت واحدة من أعمدة السياسة الخارجية التركية التي هندسها ونظّر لها أحمد داود أوغلو، ولن يكون بمقدور الرجل بعد اليوم، أن يبشر بهذه النظرية إلا من باب إظهار “النوايا الحسنة” وإدارة العلاقات العامة.... وفي سوريا، ستختبر أيضاً “نظرية القوة الناعمة”، وهي بدأت تخضع للاختبار على أي حال، فأدوات هذه النظرية في حقل التبادل الاقتصادي والتجاري والانفتاح و”الحريات الأربع”، إلى غير ما هنالك، تضررت على نحو كبير خلال الأشهر الفائتة...فالتجارة إلى تراجع، وحركة الأفراد والسلع والرساميل والخدمات على ضفتي الحدود في أدنى معدلاتها خلال السنوات العشر السمان التي شهدتها العلاقات بين أنقرة ودمشق.
والاختبار الأهم لنظرية “القوة الناعمة” التركية، سيكون قريباً، عندما تدخل الأزمة السورية مرحلة “الملاذات الآمنة” و”حماية المدنيين” و”مناطق حظر الطيران”...حيث تشير أغلب التقديرات إلى أن أنقرة ستكون اللاعب الرئيس على هذه الجبهة، وربما عسكرياً، عندها ستحل “نظرية القوة الخشنة” محل “نظرية القوة الناعمة” كأحد أعمدة السياسة الخارجية التركية، وسيكون لذلك أثرٌ كبيرٌ على صورة تركيا ودورها في العالم العربي، لا نعرف من الآن، كيف سيكون هذا الأثر، وأي حدود سيبلغ.
“استقلالية” القرار التركي عن مراكز صنع القرار الدولي، في واشنطن وبروكسيل (الناتو)، كانت على الدوام واحدة من روافع الدور الإقليمي الصاعد لتركيا...العرب أحبوا الاتراك كثيراً، عندما حال برلمانهم المنتخب ديمقراطياً، دون استخدام أراضي بلادهم كمنصة للزحف الأمريكي على العراق في العام 2003، في الوقت الذي أظهرت معظم دولهم وحكوماتهم غير المنتخبة، خنوعاً منقطع النظير أمام ضغوط “العم السام” وجبروته...هذه الصورة تبدو عرضة للتبديل والتغيير في ظل التقارب غير المسبوق في السنوات العشر الأخيرة، بين واشنطن وأنقرة، إلى الحد الذي يقال فيه، أن تنسيقاً ذا صبغة استراتيجية يدور بين العاصمتين فيما خص ملفات المنطقة، وبالأخص الملف السوري.
يبقى الملف الفلسطيني، أو بالأحرى ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والذي كان لتركيا مواقف قاطعة في وضوحها حياله، وبصورة رفعت من أسهم “الأردوغانية” في أوساط الرأي العام العربي، منذ دافوس وأسطول الحرية وما سبقهما وأعقبهما...الملف الفلسطيني يتواضع حجماً ونفوذا في أداء السياسة الخارجية التركية المنهكمة من الرأس حتى اخمص القدمين بالرمال السورية المتحركة، مع أن ما تشهده المسألة الفلسطينية من تطورات، تملي على أنقرة رفع منسوب اهتمامها وتدخلها، من “استحقاق سبتمبر” إلى العدوانات المتواصلة على غزة والضفة (الاستيطان).
طوال سنوات خمس مضت، عاشت المنطقة العربية “لحظتها التركية” بامتياز...وتحوّلت أنقرة وبالأخص اسطنبول، إلى محج للعرب كل العرب...عرب الاعتدال أرادوا دوراً تركيا معادلاً لدور إيران المتزايد بقوة بعد غزو العراق...وعرب المقاومة استمرؤوا المواقف التركية من إسرائيل ونزعتها الاستقلالية عن الولايات المتحدة...والإصلاحيون العرب، بمن فيهم الإسلاميون، ولّوا وجوههم صوب “النموذج” التركي، للتعلم والقراءة والدراسة والاستفادة، ووجدوا هناك معيناً لا ينضب من الدروس والخبرات التي تعينهم في الإجابة عن ما يواجههم من أسئلة وتحديات (وليس لنسخ النموذج التركي كما يحلو للبعض تصوير المسألة)...وأصبحت تركيا بنتيجة ذلك، لاعباً إقيمياً متزايدَ الثقل والحضور، وقوة مستقبلية لا يمكن لعاقل أن يتجاهل تأثيرها.
وجاء ربيع العرب ليعطي صدقية إضافية للدور والموقف التركيين، على الرغم من بعض الارتباكات التي أصابت السياسة التركية في البدء (ليبيا) شأن مختلف اللاعبين الإقليميين والدولين الذين أخذتهم الثورات العربية على حين غرة...وفي ظني أن تركيا نجحت في إرساء قواعد علاقات وطيدة مع دول الربيع العربي من مصر إلى تونس مروراً بليبيا.
إلى أن وصل قطار الإصلاح والتغيير عند محطته السورية، وتوقف فيها ازيد من ثمانية أشهر...هنا تبدو المسألة مختلفة...هنا لا توجد أجوبة سهلة للأسئلة السهلة...هنا الاختبار والمحك...هنا ينتصر النموذج التركي أو يهزم...هنا ستخضع “البريسترويكا” التركية لامتحانها الحقيقي...وللبحث صلة.
(الدستور)