أعداء الشعوب هم الخاسرون

الجولة في نهايتها للشعوب, حتى لو طال المسير, وعظمت التضحيات, وساد الهرج والمرج, وضعفت الرؤية لدى قصار النظر, هذه سنةٌ كونية وقانون سماوي لا يتخلف, وسوف يخسر المتسلطون الذين سطوا على الحكم في غفلة من الجماهير, وسوف يسقط معهم الفاسدون والمنافقون والمتزلفون الذين تكيفوا مع الواقع المستبد ووجدوا فيه مكاناً للارتزاق والإعاشة.
ثورة الشعوب العربية ضد الأنظمة الفاسدة المتسلطة هي ثورة ضد التبعية للأجنبي ابتداءً, وثورة على الحكام الذين رهنوا البلاد وأهلها ومقدراتها لخدمة المستعمر, وثورة على الذين استغفلوا شعوبهم واستخفّوا بها, واستمدّوا شرعيتهم من دول الاستكبار والبغي, كما هي ثورة لاستعادة الكرامة والحريّة والديمقراطيّة الحقيقيّة والإرادة الشعبيّة الغالبة نحو التطوّر والتحديث والرّفاه والحياة العزيزة.
ثورة الشعوب العربيّة ليست ثورة عفويّة طارئة, وليست طفرة غوغاء ودهماء كما يحاول بعضهم تصويرها فالشعوب العربية تختزن كل مقومات النّهوض وتمتلك مخزوناً قيمياً حضارياً نبيلاً متميزاً, بفعل تراثها الغنيّ الثر, الذي يملك كماً هائلاً من التجارب الإنسانية المتنوعة المتعددة الممتدة إلى فجر التاريخ البشري.
ثورة الشعوب العربيّة ليست مُنبتّة عن المشروع الحضاري الوحدوي العربيّ الإسلاميّ الكبير الذي يحمله جيل جديد, مثقف واعٍ حر مستنير, يرنو إلى إعادة كتابة تاريخ هذه الأمّة من جديد, بجهدٍ ذاتيٍ أصيل, يرتكز على قاعدة قيمية غنيّة, ومنفتح على كل حضارات العالم ومستعد لالتقاط الحكمة واستلهام التجربة الإنسانية الناجحة, بفكرٍ ناقدٍ حرٍ مليءٍ بالثقة ومتسلحٍ بالعزيمة وأبعد ما يكون عن الهزيمة الفكريّة, أو التبعيّة الذليلة لقوى الشرق أو الغرب التي تقاسمت أرضنا ومياهنا ونفطنا وخيراتنا, وهم يتطلعون لإعادة بناء الأمّة الموحدة فكراً وثقافةً وحضارةّ ومشروعاً متميزاً فريداً يملك فلسفة شاملة متكاملة لإنقاذ البشرية.
هذه هي الحقيقة التي لا يدركها المنهزمون, ولا يستطيع إدراكها أولئك النفر الذين ولدوا من رحم الاستبداد والقهر والذلّ وحكم الفرد المتسلّط الظالم الذي استعبدهم, فراقت لهم العبودية واستمتعوا بالحياة الذليلة.
وهذه هي الحقيقة التي لا يستطيع فهمها أولئك النفر الذين تتلمذوا على فكر آخر مستورد لا يمت لحضارة هذه الأمّة ومشروعها الفكريّ بصلة, يحملون فكراً غريباً لا يصلح لهذه الأمّة ولا لهذه المنطقة, فهم متغربون وغرباء, لا يستطيعون إدراك حراك الشارع العربي ابتدءاً; ولذلك يسارعون بفجاجة إلى وصف الثورات العربية بأنّها ثورات أمريكية أو تركية أو برتقالية, ويسارعون إلى وصف مئات الآلاف من الشباب العربي المسلم المنبثق من رحم المشروع العربي الإسلاميّ النهضويّ - الذين يضحون بأنفسهم من أجل تحرير أمّتهم من رق الاستبداد والتبعية - أنّهم عملاء يتلقون الصُُّّرََر والعطايا من الخارج, كما تعودوا هم على تلقي الأعطيات وعاشوا على فتات موائد المتسلطين والمستبدين الذين سرقوا أموال الشعب وبدّدوها على المدّاحين وأصحاب الأقلام المرتزقة.
لقد أدرك هذا الجيل أنّه لا سبيل لمواجهة قوى النهب والسلب العالمية, ولا سبيل لمواجهة المعتدين الغاصبين, إلاّ بعد تحرير الأمّة وتحرير إرادتها, وأن تصبح الشعوب هي صاحبة السلطة وصاحبة القرار الحر البعيد عن الإملاءات الخارجية لأي جهةٍ كانت, ومن يزعم أنّه مع الشعب, ثمّ يقف إلى جانب النظام المتسلط المستبد بحجة الممانعة, فهذه أكبر فرية تبريرية لخداع الجماهير بالموقف المتخاذل; لأنّه بكل تأكيد لا يستطيع نظام مواجهة العدوّ وهو يقمع شعبه ويقتل أبناءه, ويسجن الأحرار ويسخّر جيشه لتدمير المدن, وسحق الإرادة الشعبية, وما هذه الفرية إلاّ كلامٌ متناقض لا يقنع صغار الصبية.
لقد أدرك هذا الجيل أنّه لا سبيل لبناء الدولة الحديثة المتطورة, في ظلّ الأنظمة الحاكمة المستبدة التي لا تستمد شرعيتها من شعوبها, وتعمد إلى هدر المقدرات ونهب الثروات وتبديد الطاقات بطريقة غير مسؤولة, ولذلك لا سبيل إلى الحريّة والتقدم إلاّ برحيل المستبدين المتسلطين والفاسدين.
لقد أدرك هذا الجيل أنّ المعركة الداخلية مع الفاسدين وجيوش المنافقين, وأشباه المفكرين والمأجورين والمهزومين, والمنسلخين عن فكر أمّتهم وحضارتها وتراثها والغارقين في مشاريعهم الشخصيّة المتقزّمة, والمنتفعين من أنظمة الفساد والجهلاء الدخلاء, أنّها معركةٌ شرسة وصعبة ومعقدة ولكنّها ضرورية وهي المعركة الأولى; التي تسبق معركة البناء والتطوير والتحديث, وامتلاك القوة القادرة على حماية المكتسبات ومواجهة الغزو الخارجي.
(العرب اليوم)