حرب المحاور والمراكز ... سوريا مقابل العراق

أياً تكن نتائج زيارة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن المفاجئة للعراق، فإن واشنطن، ومعها أطراف عربية (الخليج) وإقليمية (تركيا) ودولية أخرى (أوروبا)، أنها لن تقوى على وقف “التقارب الاستراتيجي” بين إيران والعراق...العراق الذي تحوّل بفعل الغزو الأمريكي للعراق، إلى “مجال حيوي استراتيجي” لنظام الثورة الإسلامية.
ولعل هذا ما يفسر إلى حد كبير، “استشراس” هذه الأطراف، معظمها على الأقل، في “إغلاق الملف السوري”، وعلى نحو يكسر “الهلال/المحور” في حلقته السورية المركزية، وربما قبل إتمام الانسحاب الأمريكي من العراق نهاية العام الحالي أو في موعد ليس بعيداً عن هذا الاستحقاق، في أبعد تقدير.
واشنطن تدرك أن أية قوة دولية لن تكون قادرة على “ملء فراغها الكبير”...وأن البديل المرشح لملء هذا الفراغ سيكون من داخل المنطقة، ومن القوى الإقليمية الرئيسة فيه: تركيا وإيران...وبين هذين الخيارين، لن تتردد واشنطن في دعم “الخيار التركي” ومساعدته في اكتساب قاعدة نفوذ وتحالفات في العالم العربي وأوروبا والأطسي...ولعل هذا ما يفسر جزئياً، التطور الملموس الذي طرأ على علاقات أنقرة بواشنطن في الاونة الأخيرة....واشنطن تراهن بكل ما لديها من أوراق وقوة واقتدار، على “كسب” سوريا قبل أن “تخسر” العراق.
الخليجيون هم الأكثر خشية من بين جميع إخوانهم العرب من اكتمال هذا “الهلال”...لذا نراهم الأكثر حماسة من بين نظرائهم العرب لدعم “مسيرة الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي” في سوريا ...نراهم الأنشط في الجامعة والمؤتمر الإسلامي، والأكثر اندفاعاً صوب الأمم المتحدة و”حماية المدنيين” وفرض العقوبات على سوريا...القلق الرئيس الذي ينتاب “نظرية الأمن الخليجية”، يمكن في هذا “الهلال” الذي تدور في فلكه أجرام عديدة، مبثوثة في المجتمعات الخليجية، ومن أبنائها الشيعة على نحو خاص...هكذا يقول الوعي و”اللاوعي” الخليجي على حد سواء.
تركيا بدورها، وهي تحتفظ بعلاقات تعاون “طيبة” عموماً مع إيران، تتطلع لدور إقليمي متزايد، وهي تشعر أنها مؤهلة أكثر من “منافستها” إيران للقيام بهذا الدور في البحر “السنّي” العربي، أولاً لامتلاكها نموذجا جاذبا للإسلام السياسي السنّي الصاعد في المنطقة، وثانياً، لأنها تمتلك قدرات اقتصادية وتجارية متنامية باطّراد، وثالثا، لانفتاحها على العالم بدوائره المختلفة، بالنظر لاعتمادها “القوة الناعمة” في سياستها الخارجية التي استخدمتها بنجاعة حتى الآن....هذا “الهلال/المحور” هو واحدة من العقبات التي تعترض الدور والطموح التركيين... ولهذا انضمت أنقرة بحماس، إلى المعسكر العربي السنّي في مقارعة النظام السوري والضغط عليه، خصوصاً بعد أن أفضت الأزمة السورية إلى ابتعاد دمشق عن أنقرة، واقترابها “اليائس” من طهران.
في مقابل كل هذا وذاك وتلك، تبدو طهران في حالة ترقب قلق ولصيق للمشهدين السوري والإقليمي، تبحث بعمق في خياراتها وبدائلها...هي مطمئنة من جهة لمستقبل دورها في العراق...لكن خسارتها لسوريا، تعني أن دورها في المشرق العربي برمته، وفي القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، سوف يتآكل...لقد مرّت السياسة الإيرانية بمراحل مراجعة وتقييم متتالية رافقت تطور الأزمة السورية، لكنها مؤخراً كما تشير مختلف الدلائل، حزمت أمرها، وقررت خوض المعركة حتى نهايتها، لا دفاعاً عن النظام في سوريا، بل حرصا على تعظيم مصالحها فيها ومن خلالها.
من هنا، يمكن تفسير التصريحات والتهديدات الإيرانية الأخيرة التي تذهب في كل اتجاه، تهديد لتركيا لاستضافتها منصات الدفاع الصاروخي الأمريكي...تحذير لأنقرة من مغبة التورط في تورط عسكري في سوريا، تهديدات لأكراد العراق من مغبة الاحتفاظ بقواعد عسكرية أمريكية بعد الانسحاب الأمريكي من العراق، أو السماح بتورط عسكري في الأزمة السورية....تهديدات تطال القواعد الأمريكية والدول التي تستضيفها...تأزيم مبرمج للعلاقات مع بريطانيا...تهديدات لواشنطن وإسرائيل بأن أي ضربة عسكرية لإيران لن تكون نزهة قصيرة...قرارات مالية واقتصادية ولوجستية وعسكرية داعمة للنظام السوري...تعزيز قدرات ومكانة حزب الله...وليس مستبعداً أبداً، أن تكون حالة الاضطراب التي تشهدها دول خليجية ثلاث هي رجع صدى لهذه المقاربة.
ووفقا لبعض المصادر الإعلامية المقربة من إيران، فإن الجدل داخل النخب الحاكمة في إيران، قد حسم لصالح خوض المعركة مع النظام السوري حتى نهاية المطاف، حيث تفيد تقارير هذه المصادر، أن أنصار “عدم خوض المعركة نيابة عن الأسد”، قد تراجع دورهم، أو حتى أن بعضهم قد خرج من مواقع صنع القرار، بعد تدخل المرشد الأعلى للثورة على خط الجدل الداخلي حول الأزمة السورية، ولصالح أنصار إنقاذ النظام في سوريا.
من خلف المشهد الإقليمي المشتعل هذا، يواجه الإصرار الأمريكي – الأوروبي (الأطلسي) على حسم المعركة مع نظام الرئيس الأسد، بموقف روسي ما فتئ يتحدث عن “الدرس الليبي” ويرفض الإنذارات والضغوطات والمهل الزمنية، ويتحدث عن حوار ومصالحة، على طريقة المبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية، لا المبادرة العربية لحل الأزمة السورية...روسيا تصعد الموقف كذلك، وتنشر درعها المضاد للدرع الصاروخي، وتتحدث عن إرسال حاملة طائراتها الوحيدة إلى المياه السورية، وترفض حتى “حظر السلاح” عن نظام الدكتور بشار الأسد، ويبدو أنها ماضية في لعبة عض الأصابع حتى النهاية، خصوصاً إن عاد فلاديمير بوتين إلى الكرملين مجددا بعد انتخابات الرابع من آذار القادم، وهذا أمر محسوم.
نحن إذن، بصدد ملف اجتاز “التعريب” إلى “الأقلمة” و”التدويل”...والمعركة في سوريا وعليها تجتذب يوما إثر آخر، مزيداً من “المحاربين” وتتسع ساحاتها وميادينها، لتشمل مزيداً من الدول واللاعبين.
(الدستور )