رواية وإخراج الشيخ محمد بن راشد!

على مدار ساعتين وزيادة أدهشتني قدرة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي ورئيس مجلس الوزراء في دولة الامارات العربية المتحدة على السرد الجميل وذي الطابع القصصي عن نشوء دولة الامارات ولحظات التكوين والمخاض الصعبة لتستوي هذه الدولة من فكرة الى بذرة الى شجرة باسقة تعهدها حكماء صقلوا مواهبهم في الصحراء وعانوا شظفها.. كنا نجلس وكان يمشي بين الجالسين في القاعة التي فاض عدد الجالسين فيها عن خمسة آلاف مستمع من مواطني الدولة ومن دبي تحديداً..
كان اللونان الأبيض للرجال والأسود للنساء قد توزعا القاعة وقد غلب الأسود الذي انتشر في المقدمة والوسط حيث كان التصفيق هو الموسيقى الوحيدة بين الفقرات..
لا يستطيع أحد أن يقنعني أن الشيخ لم يدرس الاخراج المسرحي وإلا ما تمتع بهذه القدرة على الحركة وجذب الجمهور لكلام تاريخي عن الامارات دون ملل أو تبرم أو نظر الى ساعات اليد أو الهواتف الخليوية..
كانت القاعة الواسعة والفارهة في مركز دبي للمؤتمرات قد امتلأت منذ اللحظة الأولى وقبل وصول الشيخ الذي جاء كعادته لا يحمل بيديه شيئاً ولا حتى ورقة أو قلما وقد اختار ان يكون لون الثوب مختلفاً على اللون الابيض الذي ساد القاعة، فقد اختار اللون البصلي ونسق أن تكون «الغطرة» غطاء الرأس من نفس اللون..
تنقل بين أرض القاعة والسير بين صفوف الجالسين وبين المنصة وقد نوع الكلام ما بين السرد التاريخي وقراءة القصائد النبطية التي نظمها للمناسبة في العيد الأربعين لدولة الامارات العربية المتحدة ولغير المناسبة.. وما بين الشعر الغزل وبين التجربة الوجدانية والواقعية فالشيخ لا يعترف بالسن وهو يهوى ولكنه يعترف بالحكمة وهو يتحدث ليقدم للشباب الذين خاطبهم على وجه الخصوص بما تم انجازه وطالبهم أن لا يغفلوه وأن ينتبهوا له محذراً من تحريف التاريخ والتطاول عليه وواعداً أن يصحح الخطأ فيه من خلال معايشته ومعاينته ومشاركته في صنع اللحظات الدقيقة والهامة وقد اختار لنفسه مكانة متواضعة بين العملاقين المؤسسين للدولة زايد وراشد.. زايد آل نهيان وراشد آل مكتوم والده ليكون من يصب القهوة على أيديهم ومن يختلس السمع لمشاوراتهم حين اختاروا في الصحراء المترامية خيمتين صغيرتين واحدة للتداول في أهم المواقف التي أعلن منها شهادة ميلاد الاتحاد من المحميات المتصالحة الى الامارات المتحدة والأخرى للحاشية التي كانت تعد الطعام وتقوم على خدمة الملتقين..
كنت أستمع بانصات شديد فهذا الجزء من التاريخ العربي غائب عن غالبية الأمة أو مغيب لأسباب ما زلت لا أعرفها فقد انشغلنا بتاريخ الثورة المصرية عام 1952 والانقلابات العسكرية التي قيل لنا أنها مفاتيح الاستقلال ولم نتابع ما جرى في الجزيرة العربية واطرافها الا لماما وحين تابعنا كان التركيز على موجة اليسار وثورته في الجنوب والتي اندحرت على يد ما سمي بالأنظمة الرجعية وهي الصفة الظالمة التي سادت في الفترة الناصرية..
في الساعتين سمعت تاريخاً لم أقرأ أكثره وكيف مكر الانجليز ومكر الحكيمان زايد وراشد وانتصر مكرهما والله خير الماكرين وكيف فشلت مخططات الفتنة للايقاع ما بين راشد وزايد حين جرى حجب السلاح عنهما ورفض تسليمه لأي طرف منهما واستعداء الانجليز عليهما..
رواية محمد بن راشد الأخيرة هي ملك التاريخ الآن وهي الرواية التي تحتاج الى تعزيزها من جانب الباحثين الكثر خاصة وأن ولادة الاتحاد لم تكن سهلة وأن محاولات التفجير قد وقعت في الشارقة منذ اللحظة الاولى وأن الانقلاب المدبر قد جرى حصاره ودفنه والقضاء عليه على يد محمد بن راشد الشاب الذي كان لتوه قد تخرج من كلية ساندهيرست العسكرية الانجليزية بانتظار ان يجري تمريناً حياً لمعرفته العسكرية ولذا زاد على انفاذ الأمر الذي تلقاه من الشيخ زايد لاقتلاع التمرد، اندفاعه قال انه لم يحتسبها حين بالغ في الأمر لينهي المسالة بسرعة..
لم يتحدث الشيخ محمد عن الانجازات الكبيرة الماثلة في دبي وأبو ظبي وبقية الامارات لأنها تتحدث عن نفسها ولكنه عمد أن يتحدث عن المرحلة التي سبقت الاستقلال في 2/12/1971 وخاصة سنوات أواخر الستينات وتحديداً عام 1968 وكان يسرد ويسأل الشباب وينتظر الاجابة التي كانت تتنوع ليصححها ليضيء العلاقة المعلنة والمخفية بين آل نهيان وآل مكتوم والتي لا يعرفها الكثيرون وخاصة ما فيها من علاقات نسب وتصاهر واندماج ووحدة حال من روح وجسد..
أعتقد أن احسن ما قدم في مناسبة اليوم الوطني الاماراتي بعد أربعين سنة من البداية هو ما رواه الشيخ من تاريخ عايشه وهو الأقدر على تقديمه.. فقصة الانجاز والانتصار حين تعلو لا بد من العودة الى جذورها لاهتمام الناس بها ومحاولة محاكاتها والانتساب لها لأنها قصة نجاح..
(الرأي)