بعيداً عن السياسة .. قريباً من الصحافة

المدينة نيوز - في مسعى منها لضخ دماء عربية في زواياها وأعمدتها، عمدت صحف أردنية عديدة، الى استكتاب عدد من كبار من الصحفيين والمعلقين، الذين تناولوا بدورهم مختلف الشؤون الخاصة ببلدانهم، وجميع البلدان العربية، ما عدا الأردن بالطبع، ومن باب المجاملة على ما أظن، والتزاماً بآداب الضيافة العربية المعروفة.
أشكال الاستضافة اختلفت من صحيفة إلى أخرى، ومدارس المُستضافين تنوعت بحسب أولويات رؤساء التحرير، هذا يكتب عمودا يوميا، وذاك أسبوعيا، وثالث مرتين في الاسبوع، هذا يستضاف إلى ندوة وتقال بشأنه قصائد المديح في الجرأة والحزم والعزم والاستقلالية، وذاك يُستدعى إلى ملتقى "افتراضي"، وآخر إلى منتدى "واقعي"، إسلاميون وليبراليون وقوميون ويساريون عرب، تعاقبوا على أعمدة الصحف وزواياها.
ولقد كنت من بين صفقوا لهذه الظاهرة (ولا أزال)، فنحن نربأ بصحافتنا الوطنية أن تغرق في "المحلية الضيقة"، ونريد لرياح الفكر وهبوب مدارسه أن تلفح عقولنا، وأن تغذي الجدل الدائر في أوساطنا، وأن ترفده بإفكار طازجة، تخرجنا عن رتابة "حواراتنا المتكررة" والتي تكاد تدور في أوعية مستطرقة مغلقة، تصعد هنا لتهبط هناك، ولكنها تبقى تدور داخل الكرة المُصمتة ذاتها.
على أنني وأنا أرقب تفاعل هذه الظاهرة، استوقفتني ظاهرتان جانبيتان اثنتان: الأولى، أن معظم هؤلاء الكتاب قد وضعوا لأنفسهم سقوفاً مسبقة، جعلت من كتاباتهم، أو الكثير منها، محاصرةً بقيود الرقابة الذاتية واعتبارات الضيافة وحساباتها، فما يكتبه هؤلاء في صحفهم الأصلية، أكثر جرأة ووضوحاً مما يُكتب لنا، لقد دخلوا في "لعبتنا" مباشرة ومن دون تمهيد، وبقرار ذاتي على الأرجح، وإن كنت لا أستبعد "الشروط المسبقة"، لاحظت أن كتابات هؤلاء في بلدانهم، محفّزة للجدل والحوار، ربما لأنها تسقط على بيئة سياسية واجتماعية وثقافية، مواتية لها، وكيف لا تكون مواتية ومواهب هؤلاء وثقافتهم، انصقلت بالأساس في تلك البيئة، لا في بيئتنا الخاصة، وربما يفسر ذلك، ضعف الإقبال على قراءة هذه النتاجات والتعليق عليها، فضلا عن ضعف التأثيرات والتداعيات التي تحدثها هذه الإسهامات في الجدل الوطني العام.
أما الظاهرة الثانية، فتتعلق بالاحتفائية المبالغ بها، التي قوبل بها هؤلاء من قبل من استعان بخبراتهم واستحضرها إلى صفحات جرائدنا، الملاحظة هنا لا تتعلق بأهلية وأحقية هذه الأقلام بالحفاوة والترحيب، فأصحابها في معظمهم يستحقونها، بل ويستحقون ما هو أزيد منها، ملاحظتي تتعلق بما يمكن تسميته "معايير مزدوجة" تميز مواقف البعض من أصحاب القرار في مؤسساتنا الصحفية والإعلامية، فالذين لم يستنفدوا سقف الحرية المتاح لهم في صحفنا، هم أنفسهم الذين يكيلون المديح لهذا أو ذاك من الكتاب العرب لـ"جرأته" التي لا سقف لها، والذين يفرضون أشكالاً متفاوتة من الرقابة على كتابهم المحليين والوافدين (عذراً للتعبير) هم الذين يستنجدون بأسماء وأعلام، تميّزوا في الجرأة في بلدانهم وصحافاتهم الوطنية.
في ظني، أن واحدة من المشكلات التي يواجهها كتابنا تكمن في "طبقات الرقابة المتراكبة" المفروضة عليهم، والتي يبدو أن الرقابة الحكومة بأجهزتها ومؤسساتها المختلفة، باتت أقلها ثقلاً وضغطاً على عقولهم وإبداعاتهم، فهناك رقابة المجتمع ببناه ومؤسساته الاجتماعية والدينية المعروفة، وهناك رقابة الإدارات الصحفية والإعلامية، والتي لا تعود دائماً لأسباب خارجة على إراداتهم، بل تنبع أحياناً من قرارهم الحر والطوعي المحكوم بحساباتهم الشخصية وتطلعاتهم الخاصة، ومما يعتقدون أنه "بر أمان" على المستويين الشخصي والمؤسسي.
ثمة طاقات إبداعية لا يستهان بها مبثوثة في زوايا الصحف الوطنية وأعمدتها، وهي تعبر عن نفسها بقدر يتفاوت من كاتب لآخر، ومن صحيفة إلى أخرى، ولكي تحلق هذه الطاقات على ارتفاع شاهق، يلزمها حرية سقفها السماء، فعلاً لا قولاً فحسب، عندها سنرى الكثير من الصحف الصديقة والشقيقة، تستعين بأقلام أردنية لضخ دماء جديدة في زواياها وأعمدتها، وعندها تصبح استضافة زملاء عرب، أمرا مندرجا في سياقات الانفتاح والتنوع والإثراء، لا وسيلة للتعويض عن قصور هنا أو لإغلاق ثغرة هناك، عندها تصبح الإضافة ذات دلالة نوعية وليست لوظيفة تجميلية.(الدستور)