حماس وسيف الوقت
ما من خيار سهل واحد، ينتظر قيادة حماس، فخيارات الحركة جميعها صعبة، من دون أن يعني ذلك أن خيارات الآخرين، من خصومها وأصدقائها، سهلة أو ميسّرة.
حماس على سبيل المثال، لا تستطيع القبول بشروط الرباعية الدولية الثلاثة لكي يُقبل بها كلاعب رئيس، أو يسمح لها بتشكيل حكومة أو المشاركة في حكومة مقبولة من المجتمع الدولي (الغرب أساسا)، وهي إن فعلت ذلك، تكون قد تخلت عن إرثها وتميّزها، وأسقطت كل ما نادت به وبشّرت طوال سنوات طوال...تكون قد فرّطت بقواعدها وحلفائها وأصدقائها وكل مصادر القوة والاقتدار التي توفرت لها وتوفرت عليها.
بيد أن حماس لا تستطيع في المقابل، أن تتخلى عن حقها (حلمها) في تشكيل حكومتها وممارسة قيادتها، لا سيما بعد أن نجحت في إتباع شرعيتها الثورية (الجهادية) بشرعية انتخابية، والأهم أنها تخشى إن هي تخلت عن هذا "الحق/الحلم"، إن يُستَفرد بها لاحقا، وأن تُترَك "صيدا سهلا" لأجهزة تجتمع قوى الأرض على بنائها، لا لوقف الاستيطان وإنهاء الاحتلال، بل لمكافحة "إرهاب حماس" واستئصال شأفته إن أمكن.
حلفاء حماس يدفعونها إلى مزيد من الاستمساك بـ"جمر المبادئ والثوابت"، خصوصا بعد أن خيّمت على أفق المشهد الإسرائيلي، غمامة اليمين المتطرف الداكنة، التي تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور، والحركة جزء من محور تُعتَبر هذه "الثوابت"، بمثابة المادة اللاصقة التي تبقي جميع مكوناته متصلة (ملتصقة) بعضها بالبعض الآخر.
لكن أنين الجرحى وعذابات المهجرين بلا مأوى في القطاع المنكوب والمحاصر والجائع، يدفع حماس باتجاه آخر مغاير تماما، ويحضها لتبني مقاربات "براغماتية" في قضايا الحوار والمصالحة والتهدئة وشاليط وإعادة الإعمار والمعابر وغيرها من عناوين مختلفة لأزمة واحدة: قطاع غزة.
ثمة مؤشرات إقليمية ودولية تكفي لإنعاش الأمل والرهانات في نفوس قادة حماس، بل وتدفع بهم للقول: الشجاعة صبر ساعة، فقنوات الاتصال الحذرة مع أوروبا فتحت، و"الحوار مع واشنطن مسألة وقت" كما قال خالد مشعل، وجدران المقاطعة للحركة الإسلامية تتهاوى الواحد تلو الآخر، لكن حماس تدرك في المقابل، أن هذه العملية بطيئة، وأنها ستأخذ وقتا قد يطول، ومن أين للحركة والغزيين الخاضعين لقيادتها وحكومتها، ترف تقطيع الوقت.
وثمة مؤشرات إقليمية ودولية تقول أن "الغرب" الذي قبل التعامل مباشرة مع حزب الله أو عبر وساطة حكومة السنيورة، ويبحث عن معتدلين في طالبان ليحلوا محل نظام كرزاي، ويرى في شيخ شريف شيخ أحمد معقد آماله لاستعادة الصومال وضرب القرصنة والإرهاب، ولا يكف عن توجيه الرسائل لدمشق وطهران...ثمة مؤشرات تقول أن هذا الغرب لن يقف عند عتبات حركة حماس ويدير ظهره لها، وأنه سيجد نفسه مضطرا للانفتاح عليها مثلما انفتح على حلفائها ومن هم من طرازها وعلى شاكلتها، سياسيا وفكريا، ولكن مرة أخرى من أين للحركة ترف الانتظار ؟!
أحسب كما يحسب الإخوة في حماس، أن اللحظة الدولية الراهنة يمكن أن تحتمل حكومة فلسطينية بلا اعتراف "كريستالي" بإسرائيل، وأن الفلسطينيين إن هم اتحدوا ووقف العرب خلفهم صفا كالبنيان المرصوص، سيكون بمقدروهم حمل حماس وحكومة وحدة وطنية، وتسويقها وتسويغها إقليميا ودوليا.
لكن المشكلة التي لا شك تدركها قيادة حماس، لا تتمثل في غياب الشرطين الفلسطيني والعربي لإنجاز هذه الغاية فحسب، بل وفي استقواء بعض الفلسطينيين والعرب بمطالب المجتمع الدولي لممارسة الضغط على حماس لتعجيل انتقالها إلى خنادقهم، مع كل ما يمكن أن يترتب على هكذا نقلة، من انقسامات داخلية وتآكل في الصدقية والنفوذ والقيادة.
أمام هذا الطوفان من المؤشرات المتناقضة والضاغطة في اتجاهات شتى، يتعين على حماس أن تتخذ قرارها وأن تنتقي خيارها من بين جميع هذه الخيارات الصعبة، وأحسب أن الحركة مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، بأن تتخذ قرارات تاريخية، تبقي لحماس لونها وهويتها من جهة، وتفرج من جهة ثانية عن حكومة فلسطينية توافقية، قادرة على التعامل مع المجتمع الدولي، فعنصر الوقت لا يعمل لصالح حماس، أقله في قطاع غزة، وفي هذا السياق، فإن من المفهوم والمبرر أن تعمل حماس ما بوسعها لضمان أن تكون "الفجوة" بينها وبين الحكومة العتيدة، تشكيلا وبرنامجا، أضيق ما تكون، بل وأن تكون الحكومة جزء من "رزمة متكاملة"، آخذة بنظر الاعتبار أن الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك.