من يقرأ ما جرى؟!

لم تنجح الحكومة في إدارة قضية الموانئ لا من حيث منع تحولها من قضية عادية الى أزمة، ولا من تدارك آثار تحولها الى أزمة وإغلاق الملف بأقل الخسائر.
أما الخبر الذي سمعه الناس يوم السبت عن تحرك الحكومة لإنهاء الأزمة، وما تم بثه من إجراء اتصالات مع وزراء ومديرين لم يكن أكثر من محاولة لرمي "قنبلة دُخَّانية" أمام المشهد الضعيف الذي ظهرت به الحكومة والعجز عن التعامل مع قضية عادية تحولت بفعل ضعف الحكومة وقلة حيلتها الى أزمة كبيرة.
المفارقة التي تستدعي التوقف عندها أن اصطدام الحكومة هو مع الفقراء من أبناء المحافظات، وهي ذات الحكومة التي كانت كريمة إلى حد البذخ في السعي لإنقاذ شركات خاصة وحثت الضمان الاجتماعي على شراء أصول لتلك الشركات، وهو ذات الكرم مع شركة تطوير العبدلي التي حصلت قبل أشهر قليلة على إعفاءات جمركية وضريبية وتسهيلات بعشرات الملايين.
لكن الحكومة تصطدم خلال عدة أيام مع عمال غلابى في الموانئ، حتى لو كانوا قد طالبوا ببدل سكن فإنهم يريدون مطلبا معيشيا في منطقة خاصة ثبت أنها خاصة للأغنياء، والحكومة هي التي باعت أرض الميناء وما حولها بنصف بليون ولا يضيرها أن تنصف عمالا كادحين ولو كانوا يطلبون بدلال.
وقبل يوم الموانئ كان أهل عمان من الكبار وكل مؤسسات الدولة يكتشفون أن هناك قرية اسمها الطيبة في الجنوب بلا ماء منذ أربعة أشهر. ولأن الحكومة مشغولة ولديها أعباء كبيرة دوليا، فإن أهل الطيبة قدروا ظرف الحكومة فجاءوا هم لزيارتها، ولولا رأي ناصح ربما لم يجدوا أمامهم إلا المنع لكن هؤلاء وجدوا من الملك تفهما كاملا لمشكلتهم، وهي الإهمال، فأرسل فريقا من الديوان وأوعز بجملة من الخدمات التي تشعرهم أنهم حاضرون لدى دولتهم.
يا أصحاب القرار أو ما يسمى مطبخ الدولة السياسي، أرجو أن تتوقفوا جيدا عند ما يجري وأن تدركوا أن الحكومة توجه جهودها وتمارس العصبية وتظهر قدراتها المتواضعة مع الفقراء. من يقرأ ويكتب في الدولة عليه أن لا ينسى أن القضيتين المطروحتين لا تتجاوزان إنصاف الناس بحقوقهم الأساسية، سواء على صعيد شرب الماء أو الحصول على بدل سكن، في منطقة يحتاج السكن البائس الى نصف راتب الموظف في الميناء.
ومن المفارقات أن البعض يبرر اللجوء إلى العناد على أنه حفظ لهيبة الدولة. لكن هيبة الدولة تصنعها الحكمة والقدرة على منع ظهور الأزمات. وهيبة الدولة تصنعها عمليات التواصل مع الناس وتحقيق مصالحهم. وهيبة الدولة تكون بالتراجع عن أي خطأ، وليس بتراكم الأخطاء والإصرار عليها. وهيبة الدولة يحققها المسؤول الذي يتقن لغة الناس وله عندهم مصداقية وحضور وتمثيل. وهيبة الدولة تكون في الهدوء والمسار الطبيعي، وليس في تحويل القضايا العادية إلى أزمات.
المفارقة الأخرى أن من لجأت الحكومة معهم للقوة من عمال الموانئ يعتصمون وهم يرفعون العلم وصور الملك، ومن جاءوا الى الحكومة يشكون العطش كانوا يمارسون انتماء فطريا وصادقا، ولو أن بعض النخب عطشوا أو أصابهم نقص في الامتيازات لربما نسوا أنهم كانوا يوما من أهل السلطة والقرار. لهذا فإن ما جرى ليس حالة خدماتية، بل خلل في معادلة إدارة الحكومة لسياسات الدولة، وهو ما يستحق القراءة، واتخاذ ما يلزم لاستدراك الآثار السلبية التي تركها الأداء السلبي.
ما حدث هو أخطاء سياسية غير مبررة. وسنبقى نقول إن الحكومات ليست مجالس إدارة، بل حكم بكل معنى الكلمة، وحتى الحل المطلبي لم تنجح الحكومة فيه.