دمشق - بغداد .. ربيع وخريف في أسبوع واحد

خلال أقل من أربعة أشهر ، وقّع العراق وسوريا اتفاقيتين للتعاون والشراكة الاستراتيجيين بين البلدين ، الأولى في الثاني والعشرين من نيسان ـ أبريل الماضي في بغداد ، والثانية في التاسع عشر من آب ـ أغسطس الجاري في دمشق ، تقرر بنتيجتهما تشكيل "مجلس تعاون استراتيجي" يضم جميع الوزراء السياديين والأمنيين إلى جانب آخرين ، برئاسة رئيسي حكومتي البلدين ، يجتمع مرتين في العام ويبحث في مختلف الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية والتطورات الإقليمية ، وقيل حينها ، وفي المرتين ، بأن العلاقات بين البلدين قد دخلت مرحلة جديدة ، خصوصا بعد فتح السفارتين وتبادل السفيرين لأول مرة منذ سنوات وعقود طوال ، الأمر الذي أثلج صدور كثيرين من الغيارى على العمل العربي المشترك ، وبالأخص بين البلدين المذكورين.
إلى أن جاء "الأربعاء الدامي" في بغداد ، حيث تدهور العلاقات على نحو متسارع ، وتبادل البلدان سحب السفيرين ، ودخلا في سجال إعلامي على خلفية الاتهامات العراقية "الرسمية" لسوريا بإيواء عراقيين اثنين يقال أنهما متورطان في تفجيرات بغداد الدامية ، الأمر الذي أنهى شهر عسل قصير بين العاصمتين الجارتين ، تماما مثلما حصل ذات صيف في مختتم سبعينيات القرن الفائت ، عندما أنهت اتهامات متبادلة بالتآمر والسعي لقلب نظام الحكم ، شهر عسل قصير وقسري بين الجارين اللدودين ، أملته خطوة السادات المنفردة وزيارته الإشكالية لإسرائيل.
لا يمكن لعاقل أن يصدق أن دمشق التي تبعث بـ"رسائل الاعتدال" إلى كل عنوان متاح ، وتواصل مسعاها للخروج من "عنق زجاجة مرحلة ما بعد اغتيال الحريري" ، ترسل في الوقت ذاته ، سيارات مفخخة بالموت والدمار ، إلى قلب العاصمة العراقية ، مقامرة بكل ما حققته من انفراجات ملموسة في علاقاتها الإقليمية والدولية.
ولا يمكن للتحقيق في جريمة بوزن جريمة "الأربعاء الأسود" أن يدار بطريقة حزبية - ميليشياوية كتلك التي تابعنا فصولها في وسائل الإعلام مؤخرا ، فتصدر البيانات تباعا بتحميل "التكفيريين والصداميين" المسؤولية عنها ، علما بأن التكفيريين شيء والصداميين شيء آخر ، ولا يمكن وضعهما في سلة واحدة ، لسبب بسيط أن كلا الفريقين يرفض أن يزج به في "حضيض" الفريق الآخر.
لسنا نعرف هوية "القاتل ـ المجرم" الذي خطط ونفذ وحرض وموّل وبرر وسوق وسوغ موجة العنف المجنون التي ضرب العراق العراق خلال الأيام القليلة الماضية ، على أننا نأخذ على محمل الجد ، روايتين رئيستين جرى تداولها بكثافة لتفسير ما حصل: الأولى تتهم القاعدة ، وتؤكدها بيانات "دولة العراق الإسلامية" التي أعلنت فيها المسؤولية عن "الأربعاء الدامي" ، وهي رواية تبدو مرجحة بكل المقاييس الايديولوجية و"العملانية" ، فالقاعدة متصالحة فكريا وعقيديا مع هذا النمط من الأعمال الإجرامية ، وهذه الأعمال تنتمي فنيا إلى "نمط القاعدة وأسلوب عملياتها" ، وهذه رواية قابلة للتصديق تماما ، وثمة سوابق وشواهد تجعلها ذات صدقية عالية.
على أننا لا نستبعد الرواية الثانية بل ونجد فيها تفسيرا مقنعا لما يجري ، وتقول أننا أمام عملية تصفية حسابات بين "الكيانات السياسية" العراقية ذاتها ، في ذروة موسم التحالفات والاصطفافات والتحضيرات للانتخابات المقبلة ، وأن العملية بحكم جرأتها وحجمها ، ما كان لها أن تتم لولا تواطؤ أطراف في السلطة ، والذي قد يصل حد التورط الكامل في الجرم المشهود ، كما أننا لا نستبعد "نظرية دمج الرواتين في رواية واحدة" ، فنقول أن القاعدة مستفيدة في من تواطؤ بعض السلطة تمكنت من ضرب الأمن العراقي في مأمنه ، وعلى مقربة أمتار من وزارة الداخلية.
ونضيف إلى الروايتين رواية ثالثة تقول: أن الذين أزعجهم التقارب السوري - العراقي الأخير ، وهم كثر محليا وإقليميا ودوليا ، حاولوا ويحاولون استغلال هذه الجريمة ، إن لم يكونوا قد اقترفوها بأنفسهم أو دفعوا غيرهم لمقارفتها ، من أجل تعطيل هذا التقارب ومنع تطوره وقطع الطريق على تفاعلاته المستقبلية المحتملة ، فبعض الذين سارعوا إلى كيل الاتهام لدمشق واستدعوا السفير العراقي في دمشق للتشاور ، لا يخفون ارتباطاتهم بمراكز إقليمية ودولية مناهضة لسوريا ، وراغبة في استمرار عزلها واحتجازها ، وهم يريدون للعراق أن يكون ساحة لتسوية الحسابات والصراعات الإقليمية ، وحلبة يتبادل اللاعبون اللكمات من على منصتها ، وهذه واحدة من اللكمات التي يوجهونها من بغداد إلى دمشق.
مشكلة العراق أننا لم نعد نعرف الحدود والفواصل بين أحزابه ووزاراته ، أجهزته ومليشياته ، فلكل واحد من الساسة العراقيين ، أكثر من قبّعة ، ينطق باسم الحكومة ظاهريا ، بيد أنه واقعيا ، يعبر عن المصالح الأعمق لحزبه وطائفته ، ويخرج على الطائفة بلبوس من الغيرة الوطنية ، فإذا به بالكاد ينجح في إخفاء مصالح أنانية فردية وحزبية. وفي خضم هذه الفسيفساء المتشابكة من المصالح والحسابات الصغيرة والمعقدة ، تبدو الحقيقة ومعها العلاقات السورية - العراقية ، ضحيتان من ألوف الضحايا البريئة التي تسقط على مذبح الصراعات الحزبية والفصائلية والطوائفية.