ما بعد «قمة نيويورك الثلاثية»؟

انتهت معركة "شروط استئناف المفاوضات" بفوز ظاهر لبينيامين نتنياهو على محدثيه: رئيس الدولة الأعظم باراك أوباما ورئيس "الدولة الأصغر" التي لم تنشأ بعد محمود عباس ، وقد حرص الأول على "تظهير" فوزه في معركة عض الأصابع ، من خلال إعطائه ضوءا أخضر لتكثيف البناء على إحدى التلال الواقعة خارج المخطط التنظيمي لمستوطنة "بيتار عيليت" جنوبي القدس ، في ذات اللحظة التي بدأت فيها أعمال القمة الثلاثية ، وفي تحد سافر لإجماع المجتمع الدولي الرافض للتوسع الاستيطاني.
وستبدأ منذ اليوم ، معركة جديدة بعنوان استئناف المفاوضات رسميا هذه المرة ، والأرجح أن مآلات "المعركة الثانية" لن تكون مختلفة عن نتائج "المعركة الأولى" ، فقد نجح الإسرائيليون في فرض إملاءاتهم على المجتمع الدولي بعد أن نجحوا في تحويلها إلى حقائق قائمة على "ارض الواقع" في القدس والضفة الغربية ، والأهم أنهم - الإسرائيليين - نجحوا في إقناع أوساط في الإدارة الأمريكية بمسؤولية الجانب العربي ، وبالأخص الجانب السعودي ، عن عدم التوصل إلى اتفاق بشأن تجميد الاستيطان ، لرفضهم الاستجابة لنداء أوباما بـ"التطبيع أولا".
وأحسب أن الفشل العربي في إدارة معركة "شروط استئناف المفاوضات" ينهض كشاهد إضافي على تآكل الدور العربي وتراجع نفوذ "المجموعة العربية" على الساحة الدولية ، ولعلها "صدفة" من النوع الذي يتكشّف عن "ضرورة" ، أن يتزامن انعقاد "القمة الثلاثية" بشروط نتنياهو ، مع هزيمة الوزير فاروق حسني مرشح الدولة العربية الأكبر لرئاسة "اليونيسكو" ، أمام مرشح دولة بحجم بلغاريا لا أكثر ولا أقل ، لكأننا في ذورة موسم "الفشل الدبلوماسي العربي".
وفي غياب "الحاضنة العربية" للحقوق الفلسطينية ، تميل معظم التقديرات بشأن مستقبل "مسار أوباما" إلى التشاؤم ، بل وتتنامى يوما بعد آخر ، المخاوف من الانعكاسات و"الأعراض الجانبية" التي قد تترتب على هذا المسار ، وأول غيثها تلك التي ظهرت إرهاصاتها مبكرا ، عندما وقفت معظم الفصائل والقوى الفلسطينية ، بمن في ذلك حركة فتح ذاتها ، ضد مشاركة الرئيس عباس في قمة نيويويوك الثلاثية.
على أن القلق الأكبر يكمن في "مكان آخر" ، ذلك أن مقتضيات هذا المسار قد تفضي إلى تعطيل جهود استئناف الحوار الوطني واستعادة وحدة الشعب والمنظمة ، فالمفاوضات غير الرشيدة ، المسبوقة بتنازلات مجانية ، تشكل من دون ريب ، غطاء لاستمرار الوضع الراهن ، الذي يشهد أوسع عمليات قضم للأرض والحقوق الفلسطينية ، وهي - أي المفاوضات - بهذا المعنى ، ستكون عامل تأزيم للعلاقات الفلسطينية الداخلية ، بدل أن تكون وسيلة لاستعادة الحقوق وقبلها لاستعادة الوحدة.
وفي ظني أن القضية الفلسطينية التي تقف أمام واحد من منعطفاتها الخطرة العديدة المتلاحقة ، تملي على القيادة الفلسطينية الكف عن التعامل بنظام "المياومة" في إدارة المشروع الوطني الفلسطيني ، والشروع فورا ومن دون إبطاء ، في صياغة استراتيجية فلسطينية جديدة ، تقوم على "الحوار والوحدة الوطنيين أولا" ، وتمر باشتقاق صيغة تجمع ما بين "المفاوضات الرشيدة" و"المقاومة الرشيدة" ، بعيدا عن الحسابات الصغيرة للانتهازيين والمنتفعين ، وبعيدا عن الأوهام البائسة التي تحرك وتقرر مواقف قوى وشخصيات فلسطينية ، لم يعد لديها من أولوية سوى البقاء على رأس "سلطة لا سلطة لها".
ولقد آن الأوان لتبريد بعض الرؤوس الحامية في الضفة وغزة على حد سواء ، فالاقتتال على جلد الدب قبل اصطياده لم يعد استراتيجية أبدا ، فليس هناك جلد ولا دب ، وكل ما سيخرج به "الأخوة الأعداء" من "مولد" الانقسام الفلسطيني ، لن يكون سوى المزيد من الحصار والخنق والتهويد والاستيطان والتدمير المنهجي المنظم لفرص نجاح المشروع الوطني الفلسطيني.