بعد عام من حضوره!

في الثاني عشر من شهر تشرين الاول من العام الماضي، كتبت هنا، وفي هذه الزاوية مقالة عن الساخر الجاد محمد طمليه، وفي الثالث عشر من ذات الشهر، أغمض محمد طمليه عينيه في رحلة الى السماء.
بدا لي حينها وكأنني اذكره بموعد اقلاع الطائرة، فركض نحوها، تاركا وراءه، فرحه الطارئ وحزنه الدائم وقهره المقاوم وفقره الغني وابتسامته التي كانت في طول المسافة بين أم ترابه ووادي الحدادة وواحدا وخمسين عاما من الغضب الجميل والسخرية الطاغية، وتلالا من الورق الابيض الذي رسم فوقه السواد والحداد والعناد.
عندما هاجمه السرطان في المرة الاولى، بدا وكأنه طرد مفخخ ارسل به اليه كل اولئك الذين عراهم قلمه، واستهدف لسانه الذي لم يعرف مجاملة او مهادنة أو نفاقا، قلت له: لقد عرفوا أين يستهدفونك، فابتسم تلك الابتسامة التي تركها وراءه على مرايانا، وانتصر على المرض بقدرته الهائلة على الحرب والمقاومة، كما ترك وراءه اكثر مما كان في وسعه أن يقول حتى لو امتد به العمر نصف قرن آخر.
في الغرفة رقم 1 من الجناح الخاص في المدينة الطبية، كنت اجلس على طرف السرير في انتظار ان يأتي من يحملني الى البيت لأبدأ رحلة البحث عن قطعة من كبد متبرع، مر محمد طمليه سريعا امام باب الغرفة، نهضت واتجهت الى الباب وناديت عليه، دخل واشعل لفافة تبغ، قلت له: التدخين ممنوع، لم يكترث وسألني ما هو المسموح به؟ كان الجناح الخاص يبحث عن غرفة لهذا الصديق فقلت له: سأغادر بعد دقائق وتستطيع الاقامة في هذه الغرفة، ابتسم وقال: لماذا تغادر ابق وسنقتسم الغرفة معا!.
دخلت ممرضة برتبة متقدمة فخاطبها قبل أن تتكلم: أعرف كل الاشياء الممنوعة ولكنني احبها كلها، واذا قلت لي: صحتك فسأجيبك: أنا لست مسؤولا عنها، هذا واجبكم أما أنا فواجبي أن اتركها بين ايديكم.
أغمض محمد طمليه في الثالث عشر من هذا الشهر من عام مضى، عينيه، من المؤكد انه هو الذي رد على هاتف عزرائيل، وأنه دعاه لشرب فنجان من قهوة ولفافة تبغ، وانه طلب منه ان يبقي عينيه مفتوحتين حتى يصل الى بوابة السماء، وحتى تظل امام بصره نجاحاته واخفاقاته، قصص حبه وعشقه التي لا تحصى، فوضاه التي لا تحد، غضبه على كل ما حوله، وفي اللقاء الاخير معه تمنى علي ألا اكتب عن مرضه، لأن آخر النساء في حياته لم تكن تعرف ولأنه يحب أن يترك لها حزنا مختلفا، وقد فشل في أن يترك لها اقل القليل من الفرح.
هذه ليست كلمات رثاء، فمنذ اللحظة الاولى لسماعي ان طائرته قد اقلعت، قلت: اكتمل الان حضوره، وها قد مر عام اول على هذا الحضور، وقبل أن يسافر غربا بحثا عن علاج تحدثت اليه وقلت: انها فرصتك لزيارة فلسطين، رد بعصبية: إنها اسرائيل فلماذا نواصل اكل لحمها بالكذب.
على روحك السلام الذي افتقدته خمسين عاما، انفقت كل دقيقة منها في تمزيق ملابسنا وكشف عرينا، وتركنا أمام مرايانا بلا ورق توت.
Kmahadin@hotmail.com