أفكار «دايتون» : السلام من خلال الأمن

كثيرة هي "الافكار" و"الحقائق" التي يتم احتراقها ، في بلادنا ، فقط من خلال السياق الذي يتم ايرادها فيه. فلا تحظى بفرصة دراستها كما يجب ، وبالتالي لا يتم انتاج معرفة بها او عنها ، وما ترتبه تلك المعرفة من سياقات استراتيجية لحركة الامور ، لا سيما اذا كانت تلك السياقات تجري وفق برمجة محسوبة ومدروسة ، على مديات قريبة او متوسطة او بعيدة.
وبالتأكيد ، ليس هناك في المنطقة ما هو اهم من جوهر الصراع العربي الاسرائيلي وتسويته ، بمستوياته المتعددة ، وبالاخص مستواه المتمثل في تسوية الامور ، على الارض ، فيما تبقى من فلسطين التاريخية ، في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة. وبصرف النظر عن التسوية السياسية وشكلها او اشكالها المتوقعة ، فان التسوية الفعلية للجانب الفلسطيني من الصراع تجري على قدم وساق ، في الضفة الغربية وغزة (قبل الانقسام الفلسطيني فيها ، الذي حسم لصالح حركة حماس) ، منذ مطلع العام 2005 ، أي بعد اربعة اشهر على رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. تلك التسوية التي يمثلها مشروع الجنرال الاميركي "كيث دايتون" ، وهو ما تم احتراقه ، فلم تنتج معرفة به ، في سياق حمى الصراع الدامي ، الذي دار قبل سنوات ، بين حركة حماس وبين قوات عقيد فتح في غزة محمد دحلان.
في مطلع شهر أيار الماضي ، قدم الجنرال "دايتون" عرضاً منقطع النظير لبرنامجه ومشروعه في الاراضي الفلسطينية المحتلة ، في "معهد واشنطن لسياسات الشرق الاوسط" ، عبر برنامج ندوة "سوريف Soref". فمن هو دايتون؟ وما هي افكاره؟ وما هو جوهر التسوية التي يقوم على رعايتها وتنفيذها على الارض؟ وهل حقق نجاحات ، وما هي آفاقها.. الخ؟.
انه الجنرال "كيث دايتون" جاء الى المنطقة في الشهر الاخير من العام 2005 ، قادماً من "البنتاغون" في واشنطن ، وخلفاً للجنرال "كيب وارد" ، حيث كان نائباً لمدير قسم السياسة والتخطيط الاستراتيجي في هيئة الاركان الاميركية. وقبل ذلك كان في العراق ، مكلفاً بمهمة البحث عن اسلحة الدمار الشامل العراقية (،). وهنا يترك "دايتون" امر تقدير طبيعة مهمته في العراق الى "الوزير وولفوفتز" فيما اذا كانت "مكافأة" ام "عقوبة". كما ان الرجل عمل سابقاً ملحقاً عسكرياً في السفارة الاميركية في روسيا ، اما جوهر عمله ، في كل المهمات التي تولاها ، فيحددها بأنه كان "جندي مدفعية" تعلّم "كيفية ضبط النيران". فضابط المدفعية يطلق الطلقة الاولى ، لكي يكون اكثر قرباً من الهدف ، مستخدماً كافة المعلومات المتوفرة ، ثم يستفيد من تلك المعلومات ليضبط الطلقات التالية ، ويضبط الاحداثيات حتى يصيب الهدف. وهو بالضبط ما فعله "دايتون" وفريقه في الشرق الاوسط ، بحسب ما قال في ندوة معهد واشنطن.
ووفق "دايتون" ايضاً ، فان المجموعة التي يقودها تسمى "فريق التنسيق الأمني الاميركي" ، وتختصر بـ USSC أما في الواقع ، فالفريق يشكل "جهداً دولياً مشتركاً" ، يقوم على تنفيذ برنامج "السلام من خلال الأمن" ، وفي مقدمة مراحله "دور اميركا في بناء قوات امن السلطة الفلسطينية" ، بالتشارك مع كل من كندا ، المملكة المتحدة ، وتركيا ، كمهمة اولى في الوقت الراهن. وكان هذا البرنامج هو "نتاج جهد ثمين قام به الباحثون في هذا المعهد" ، أي معهد واشنطن لسياسات الشرق الاوسط ، حيث ان العقيد احتياط في الجيش الاميركي "مايك ايزنشتات" وهو مسؤول كبير في المعهد ، انجز مع "دايتون" في القدس ، مهمة عملية ، كضابط تخطيط ، هي رسم "الخطة الاستراتيجية المستقبلية" للفريق الامني الاميركي.
وفي مطلع آذار من العام 2005 ، ظهر الى الوجود مكتب التنسيق الامني الاميركي. وكانت الفكرة ، من تشكيل المكتب والفريق ، هي تشكيل "كيان او جهاز" ينسق بين مختلف "المانحين الدوليين" ، في اطار خطة عمل واحدة ، تنهي حالة تضارب الجهود ، وتعبئ المزيد من الموارد وتهدئ من "مخاوف الاسرائيليين حول طبيعة قدرات قوات الامن الفلسطينية". ويبرر الجنرال "دايتون" مغزى اختيار ضابط اميركي برتبة جنرال ، لقيادة هذا العمل ، بثلاثة اسباب هي: ان رتبة جنرال ستحظى بثقة واحترام الاسرائيليين ، اضافة الى ان هيبة ومقام "الجنرال" سيشكل رافعة للتعاون الفلسطيني مع دول عربية اخرى ، ووجود نفوذ اكبر لـ"الجنرال" على عملية التداخل بين مختلف الوكالات في الحكومة الاميركية.
ولكن ، من هم اعضاء الفريق ، وكيف يتلاءمون في السياق الاقليمي؟ يقول "دايتون": انهم "فريق متعدد الجنسيات" ، فالمجموعة الانجليزية تتكون من ثمانية افراد ، وتسكن في رام الله ، اما الكنديون ، فيتجاوز عددهم ثمانية عشر فرداً ، وهم منظمون في فريق يدعى "محاربو الطريق" ، ويتنقلون يومياً في كافة انحاء الضفة الغربية ، ويزورون قادة امنيين فلسطينيين ، ويطلعون على الاوضاع المحلية ، ويتحققون من امزجة الناس على ارض الواقع ، ومعظم هؤلاء الكنديين من اصول عربية وعلى صلة مباشرة مع السكان.
ان هذا الفريق الامني يرتبط "بشبكة مع كافة المبعوثين في المنطقة ، العاملين في مجال الصراع العربي الاسرائيلي". ويتصل "دايتون" وفريقه مع مجموعة تدعى "يوربول كوبس "Eurpol Coops ، وهي فريق من رجال الشرطة الاوروبيين ، الذين يعيشون على الاراضي الفلسطينية ، ومسؤولين عن اصلاح الشرطة المدنية الفلسطينية. كما ان فريق التنسيق الاميركي وقائده "دايتون" يرتبطون بصلات اتصال وتنسيق وثيق مع كل من: توني بلير ، ممثل اللجنة الرباعية الخاص. والعميد "بول سيلفا" من هيئة الاركان الاميركية المشتركة ، في القوى الجوية ، الذي يتابع ويراقب خطة "خريطة الطريق" ، ويرسل تقاريره مباشرة الى وزيرة الخارجية "هيلاري كلينتون". ومع لاعبين دوليين في المنطقة ، سواء عبر الدول مباشرة او المنظمات غير الحكومية ، وكذلك موظفي الامم المتحدة.
وقد كانت باكورة اعمال فريق التنسيق الامني ، كما يقول "دايتون" في العام 2005 ، هي: التنسيق الدولي "على المساعدة بالنهوض باقتصاد غزة" ، من خلال التنسيق مع اسرائيل ومصر والفلسطينيين على المعابر الرئيسية ، وتنسيق "المساعدة التدريبية ، التي قدمها الكنديون والبريطانيون للحرس الرئاسي الفلسطيني ، الذي كان يدير تلك المعابر الحدودية". وفي حزيران 2007 ، انتقلت جهود التنسيق الامني للفريق من غزة الى الضفة الغربية.
بحماسة شديدة ، يؤكد "دايتون" ان "فريق الامن الاميركي" بالشراكة مع اخرين قد حققوا على الارض "نتائج تفوق اكثر توقعاتنا تفاؤلاً" ، وان "الحقائق على الارض تغيرت ، وسوف تستمر بالتغير". كما ان ما قام به الفلسطينيون ، فيما يدعونه "الهجوم الامني عبر الضفة الغربية ، بمنتهى الدهشة بالتنسيق مع الجيش الاسرائيلي" ، قد اثار اهتمام "المؤسسة الدفاعية الاسرائيلية".