تفكيك التخلف

هناك عبارة شهيرة تنسب الى ارنست همنجوي كان يسخر بها مما يسميه العناوين الكبرى او ما نسميه اليوم شعبيا الكلام الكبير ، وعبارته هي ان من يلوحون للقارئ بورقة من فئة الالف دولار يعرفون بانها غير قابلة للصرف ، واذا كانت السنتات بالنسبة لهمنجوي هي التفاصيل ، فذلك لانها الاهم والتي يتشكل من حاصل جعلها السياق كله ، سواء كان اجتماعيا او سياسيا.
مفهوم التخلف كما نتداوله في عالمنا العربي ورقة من فئة المليون دولار ، فهو لا يقبل التفكيك لان المقصود هو التعامل التجريدي مع هذه المفاهيم كي تبقى لعبة شطرنج ، وما قيل في اللغة العربية عن الفساد يملأ رفوفا وليس مجلدات فقط ، لكن الفاسدين ينعمون ببوليصات تأمين ضد الافتضاح والكشف ، وبالمقياس ذاته ثمة عزل مثير للسخرية والشفقة معا بين التخلف والمتخلفين وبين الفقر والفقراء وبين الثقافة والمثقفين فالتجريد يعفي من تحمل المسؤوليات ويتحول بمرور الوقت الى لوغرتمات ، يعزف الناس عن الاطروحات التي تتناوله ، وهناك اغنية شهيرة للراحلة ام كلثوم ، أتذكرها في هذا السياق لسبب لا علاقة له بالفن او الطرب ، فهي تقول ان العيب في الناس وليس في الحب وكأن الحب فاكهة سماوية لا جذور لها في هذه الارض.
ان نقد التخلف يقع احيانا في وعي اشد تخلفا ، وهذا ما حدث ذات يوم في عاصمة عربية ، عقدت فيها ندوة موسعة حول التخلف واسبابه ، واشترط القائمون عليها استبعاد السياسة والجنس والعقائد. فكانت كالماء الذي فسر بالماء عديمة اللون والطعم والرائحة وحين علمنا انها كانت تخلو حتى من امرأة واحدة تأكد لدينا ان ندوة عن التخلف قد تصبح امثولة في التخلف ، ففاقد الشيء لا يعطيه ولن يعطيه على الاطلاق.
ما لا يعرفه الكثيرون منا هو ان للتخلف قوانين نمو ، وهو ليس ركاما لا يقبل القياس فعقارب الساعة قد تدور الى الوراء بانتظام ايضا ، بحيث يصبح الاسوأ القادم ليس مجرد نبوءة سوداء متشائمة بقدر ما هو استقراء لهذا السيىء الذي سوف يفرزه،
ان مفهوم التفكيك علمي ومنهجي بامتياز ، لكن ليس على طريقتنا العربية ، التي سمت السكرو درايفر وهو يركب اكثر مما يفك مفكا ، لان دينامية التعاطي مع التكنولوجيا استهلاكية خالصة ، وسلبية ، وحين نقرأ احصاءات عن افضل مئة او الف جامعة في العالم ثم لا نجد بينها جامعة عربية واحدة ، نشعر بان التخلف اصبح مبرمجا ، ومرعيا تغذيه عوامل ونوايا ليست من الامانة السكوت عنها ، فثمة الان من يستثمرون التخلف كمادة خام ، ومن يرون ان بقاءه وادامته ضمانة لبقائهم وبالتالي لتفوقهم الوهمي ، وارباحهم الآثمة.
والمفارقة هي في كون اكثر الناس ثرثرة عن التخلف اشد تخلفا من الاخرين ، لان مقياسهم المتحرك على مدار الساعة لا يقيم وزنا للعقل والمفاهيم بقدر ما يحكم على الناس بروتوكوليا ، اي من خلال ملابسهم والطريقة التي يأكلون بها وكيف يعيشون ، ويبدو ان هناك مصانع ومختبرات متخصصة في انتاج التخلف وتعميمه ، وذلك خط اخر مواز للتجهيل المنهجي ، من خلال تقديم معرفة عديمة الصلة بالواقع ، فهل من المعقول ان لا تظفر جامعة عربية واحدة من بين هذه الالاف بمستوى يؤهلها للادراج في اية قائمة اكاديمية؟ فماذا يفعل هؤلاء؟ واية حاضنات لتفقيس العاطلين هي جامعاتهم؟؟