رؤوس بلا ريش

ما من احد في دول تأسست على عقد اجتماعي وسياسي ونضجت فيها فكرة المواطنة على رأسه ريشة او بونديرة كما يقال ، لان دافعي الضرائب في هذه الدولة لهم مساءلاتهم الجدية عن كل ما يجري ، وليسوا مجرد ركام آدمي او كتلة ديمغرافية عمياء ، لهذا لا تفاجئنا الانباء التي تصلنا عن محاكمات ولو كانت باثر رجعي ، واخرها ما نسب الى الرئيس جاك شيراك من اختراع اكثر من ثلاثين وظيفة وهمية عندما كان عمدة لباريس ، بالرغم من ان الفرنسيين يعترفون للرجل بالفضل حول ما قدمه لباريس من خدمات ولم يسلم من هذه التهمة حتى حفيد الجنرال ديغول الذي عمل بصحبة الديغولي شيراك خلال تلك الفترة ، الامر يتجاوز ما نسميه الشفافية الى منظومة كبرى من الاعراف التي ارستها فلسفة الحكم ودستوريته في البلدان الاكثر تقدما في العالم ، فالحبل ليس متروكا على الغارب لاحد ، حتى لو كان رئيسا للجمهورية او حفيدا لبطل التحرير ، وفي العالم الثالث الذي ينافس فيه العرب زملاء الفقر والبطالة والفساد على المركز الاول ، يكتب يوميا عن الفساد ما يكفي لتلوين ما تبقى من مياه في قيعان الانهار ، لكن هذا الفساد له مواصفات اخرى ، انه متعدد الرؤوس والذيول ايضا ، لهذا تبدو عبارة قطع دابره مثيرة للسخرية ، فلم يحدث من قبل ان عزل الفساد عن الفاسدين وعومل على هذا النحو من التجريد الذي حول الى لعبة بلا حكم او صفارة او حتى شبكة ، فهو فساد بينوي يشمل النسيج الاجتماعي برمته ، ما دام الامر قد تعلق منذ البدء بتربويات تحرض على الفهلوة والوصولية وتقبيل الكلب من فمه واحتمال لعابه كي تؤخذ الحاجة المطلوبة منه،
ثمة اذن من يثرثرون عن الفساد والشفافية مقابل من يمارسون مواقف ميدانية من هذه المصطلحات العائمة ، والتي انتهت وصفات علاجها الى مثل شعبي يقول ببساطة «فالج لا تعالج».
ان تهمة شيراك وحفيد ديغول تبدو وهمية ايضا اذا قورنت بما نتداوله في عالمنا العربي من اتهامات تشمل مصائر اوطان ومستقبل شعوب ، وتنال من قضايا كانت ذات يوم مقدسة ثم تدنست ، وانتهى المشهد الى ما نحن عليه الان بحيث اصبح التأقلم القسري هو الحل الوحيد ، تماما كما قيل عن اخر العقلاء الذي لم يجد امامه كي ينجو ويعيش الا ان يشرب من نهر الجنون ، لكن نهر الفساد ليس مشاعا كأي نهر اخر ، ففيه مكاسب تصل ارقامها حدا فلكيا بالنسبة لفقراء لا يتقنون التعامل مع اكثر من صفر او صفرين،
ان الاطفال الذين يولدون في مجتمعات المساءلة والقانون يرضعون منذ بواكيرهم هذه الثقافة التي تحصنهم بل تلقحهم ضد وباء الرشوة والمقايضات في اسواق الفساد السوداء ، والثقافة التي تفرز محاصيل سامة ، تفرز ايضا من الجهة الاخرى وسائل للتبييض ، واعادة الانتاج ، وتزوير الوقائع ، لكن عمر كل هذه الاساليب قصير ، والخداع له مدة صلاحية ايضا ، تتناسب مع التجهيل والتضليل وفقدان الرشد الوطني ، فما ان يعي الانسان حقوقه واستحقاقاته حتى صحو ويواجه الضبع بدلا من احتمال زفيره الكريه والمشي وراءه نحو المغارة..
ان تلك الرؤوس رغم كل ما قدمته لبلدانها تخلو من الريش.. اما سواها فهو مغمور بالريش المنتوف عن اجساد الاخرين،