«خط بارليف» جديد؟!

من حق الأخوة في مصر ، أن يحفروا ما شاؤوا من خنادق ، وأن يرفعوا ما طاب لهم من أسوار ، وأن يغرسوا في باطن الأرض ، وإلى العمق الذي يريدون ، ما رغبوا من ألواح فولاذية مقوّاة ، فهذه الأعمال وما شابهها ، يندرج فعلا في إطار "السيادة الوطنية" ، ولن نجادل الوزير أحمد أبو الغيط في ذلك أبدا.
لكن من حقنا في المقابل ، ان نسمي الأشياء بأسمائها ، وان نرفض الإدعاء بان خطوات كهذه يمكن أن تندرج في سياق "الدعم الموصول للشعب الفلسطيني الشقيق" ، وأن نعلن بالفم الملآن بأنها تشديد للحصار على المضروب على غزة وأهلها... من حقنا أن نقلق أشد القلق ، للحماس الأمريكي - الفرنسي - الإسرائيلي (متعدد الجنسيات) للجدار ، فهؤلاء هم من اقترح وخطط وصمم وموّل وصنّع ونقل وغرس هذه الألواح الفولاذية المقوّاة في عمق التراب المصري... هؤلاء مهجوسون بأمن إسرائيل أولا وأخيرا ، وهم لم يفعلوا ما فعلوا إلا لتحقيق هذا الغرض حصرا ، إنفاذا لمقررات مؤتمر شرم الشيخ إياه.
وبعيدا عن لغة "العصبيات القبليات" ومفردات "التجييش والتحشيد" من نوع: "الكرامة" و"السيادة" و"المكانة" و"المهابة" ، نقول أن المواطن العربي لم يعد يؤخذ بهذه "الرطانة" ، فكثير من هذه المفردات فقدت معناها بعد أن "أسقطت" في محكات عديدة معروفة للقاصي والداني.
وتخجلنا التصريحات المتضامنة مع "الجدار الفولاذي" الذي نطق بها رئيس السلطة الفلسطينية ، ولا أدري كيف يمكن لرئيس منتخب أن يبارك خطوات وإجراءات من شأنها خنق جزء رئيس من ناخبيه ، لا أدري كيف يبلغ الهوان والارتهان بأصحابهما ، حد رد الصفعات بالتحيات الطيبات المباركات.
لن نزايد على الإخوة في القاهرة ، بالقول أن أمن مصر يعنينا أكثر مما يعنيهم ، أو بقدر ما يعنيهم ، سنكتفي بالقول أنه يعنينا جدا ، ويعنينا تماما ، والتذكير بأننا كنا من بين أشد المناهضين لموجة الإرهاب التي مست بأمن مصر ولقمة عيش أبنائها ، ومن على قاعدة أننا نقوى حين تقوى مصر ، ونضعف حين تضعف أو تشيخ ، لكننا والحق يقال فإننا نجد صعوبة في هضم حكاية "التهديد للأمن القوي المصري" الكامن في القطاع المجوّع والمحاصر.
ونضم صرختنا إلى صرخة كارين أبو زيد ، المفوض العام للأونروا ، التي أطلقتها من الجامعة الأمريكية في القاهرة ، واصفة الجدار بأنه أقوى من "خط بارليف" الشهير ، وأن كلفة بنائه تتحملها الإدارة الأمريكية وأن القرار بشأنه اتخذ في ربع الساعة الأخيرة لولاية جورج بوش وبعد لقائه الأخير مع تسيبي ليفني في البيت الأبيض ، فأين "السيادة الوطنية" من كل هذه المعطيات والحقائق؟،.
الفلسطينيون في قطاع غزة يكتون بنار الأنفاق وأسعارها "الاحتكارية" والأرباح التي يجنيها "أمراؤها" ، لكنهم مع ذلك يدركون كما قالت أبو زيد أن ما لا يقل عن ثلثي حاجاتهم الأساسية تأتي عبر الأنفاق ، وأن من العبث المقامرة بها أو التخلي عنها ، طالما ظلت المعابر مغلقة بإحكام ، وربما لهذا السبب بالذات جاءت صرخة الغزيين مدوية: سنحفر على عمق 70 مترا إن اقتضى الأمر ، ولن نسمح لأبنائنا بالموت جوعا.
إن البديل عن "الأنفاق" التي يتندر بها وبـ"إمارتها" ، "المحافظون الجدد من الكتاب والصحفيين العرب" ، هو فتح المعابر ، وبالأخص معبر رفح ، فورا ومن دون إبطاء ، وتخطي الفيتو الإسرائيلي في هذا المجال ، أقله لضمان تدفق المواد والأفراد والسلع الغذائية والدوائية (بعد الفحص والتدقيق الأمنيين) ، عندها وعندها فقط ، تفقد الأنفاق قيمتها ووظيفتها ، وتنتفي الحاجة لها ، وتنهار من قلة الاستخدام والصيانة من تلقاء ذاتها ، ومن دون حاجة لجدران اسمنتية وفولاذية وأسلاك شائكة.