نموذج وطني وإنساني

بعد منتصف ليل يوم السبت كنت أقرأ التقرير الذي نشرته "الغد" للزميلة غادة الشيخ عن عائلة الشاب الفقيد عبدالله ابو طويلة الذي انتقل الى رحمة الله تعالى، وتبرع عائلته بناء على وصيته بأعضائه لمرضى يحتاجون إليها ليستعيدوا العافية، وكلما انتقلت من فقرة لأخرى تزداد قناعة أنك أمام مثال كبير من الإنسانية والروح الوطنية والانتماء للخير.
ولمن لم يقرأ فإن الفقيد عبدالله رحمه الله كان شابا لم يتجاوز العشرين عاما، وهو أحد طلاب كلية الطب وبطل من ابطال رياضة التايكوندو، وكنز من الخير وهو الذي كان قد كتب وصيته بالتبرع أمام عائلة كريمة منتمية لصناعة الحياة وزراعة الفرح، لهذا لم يتوان الاب عن تنفيذ الوصية بذات الإنسانية وتبرع بما بقي من الحياة في أعضاء جسد ابنه لأشخاص لا يعرفهم طلبا للأجر والثواب، وبحثا عن خير وفرح تعيشه عائلات اخرى، فكان الفقيد ومن بعده عائلته قادرين على صناعة اعلى درجات الفرح للآخرين وهم في ذروة أحزانهم على رحيل ابنهم الشاب الطبيب الرياضي وقبل هذا وبعده الإنسان.
وعندما نتوقف عند هذه الحادثة يذهب فكر أحدنا الى مجالات كثيرة؛ لأن من يملك روحا ليزرع الفرح للآخرين من جسده وفي ساعات حزنه يكون انسانا لا يمكنه ان يزرع شرا او يمد يده لفساد او يعتدي على حق الآخرين في الحياة، ولا يمكنه ان يبيع ضميره مقابل رشوة او ان يستبدل لقمة الحلال بآلاف دنانير الحرام، او ان يجعل لحم وعقل ابنائه ينموان من مال سحت أو قرش لا يحل له بشرع او قانون.
الانسان وحدة واحدة؛ لهذا جعل الله تعالى الشهداء في اعلى المراتب لأن الشهيد يمنح حياته فداءً لقيمة ودين ووطن، وهذا النموذج الذي يمنح اغلى ما لديه لا يمكنه ان يهبط الى ادنى المستويات في التسابق على الدنيا والسرقة وزراعة الشر، فالإنسان الذي يرى الحياة أخذا سواء مع وطنه او مجتمعه او عائلته ولا يتقن لغة العطاء هو بذرة ضعف المجتمع، لأنه لا يتقن ان يعطي حتى لأطفاله، ولو استعرضنا كل انواع الإجرام من أدناها الى أقصاها فإن أصلها انسان اراد ان يأخذ ومارس أمراضه، فكان لصا وقاتلا وخائنا وسمسار اجساد وأوطان، وعندما يفشل أي مجتمع بتوسع حالة الأنانية فإنه يفتح الباب واسعا امام كل الرذائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
الدين والمدرسة والبيت والقانون الرادع والإعلام الملتزم كلها مؤسسات يجب ان تكون حاضرة في بناء مجتمعاتنا، وإلا كان العنف والإجرام والفساد الذي لا يوقف الا الادوات السليمة، فالخوف وحده قد يجبر المنحرف على تخفيف النشاط لكنه لا يصنع إنسانا صالحا.
عائلة ابو طويلة لم تزرع فحسب اعضاء من جسدها في اجساد بعض مرضانا، بل إنها تزرع قيما وترفع من مكانة الجود بالنفس، وتعزز في مجتمعنا المساحة الخضراء من القلوب الطيبة، مساحة نحتاج ان نتفقدها دائما لأن التصحر في القيم يذهب بنا الى كل الخسائر.