خصوصية مرارة صلب وتشريد المسيحي الفلسطيني

قليلة هي المذكرات الشخصية للمسيحيين الفلسطينيين ، على كثرتها ، قياساً الى حجم ومضامين النكبة الفلسطينية ، ببعديها الانساني والاجتماعي. وتزداد أهمية هذا الكلام اذا تنبهنا الى «التناقص» الفاحش ، في اعداد المسيحيين العرب في فلسطين التاريخية ، باللجوء والترحيل والهجرة ، وفق منهجية محسوبة وخطرة ، تشاركت في انجاحها أطراف عديدة ، وعلى رأسها الحركة الصهيونية.
اجتماعياً وانسانياً ، لا تزال «القصة الفلسطينية» ، بما هي ذهولنا العربي الأكبر في القرن العشرين ، زاخرة بما لم يُقل ، أدبياً وثقافياً وتراثياً ، وتلك مهمة من لم تأخذهم السياسة في زوابعها ، من الفلسطينيين خاصة والعرب عامة. فبالامكان تأسيس أطلس للشتات الاجتماعي الفلسطيني وتحولاته ، والمسيحي منه على وجه الخصوص ، وكذلك دائرة معارف لأنماط الحياة الاجتماعية ، وأشكال الاستقرار العربي في مدن وأرياف وبوادي فلسطين ، قبل اندلاع حريق المشروع الصهيوني فيها الأمر ، الذي يستدعي تضافر جهود افراد كثيرين ومؤسسات اكثر ، ممن كواهم لظى الشتات ولوعة الغياب الطويل من أبناء «فلسطيننا العربية» التاريخية.
في هذا السياق ، يأتي كتاب الأخت الصديقة نهى بطشون ، العربية المسيحية الفلسطينية الاردنية ، وكم وددت لو كانت في هذا الكون «جنسية انسانية» لأقول «نهى الانسانية».
بصدق ، يصعب أن يضاهى ، تعيدك «راهبة بلادير» ، وهو عنوان مذكراتها الشخصية ، الى حكاية العائلة المسيحية العربية في فلسطين ، وأواصرها الاجتماعية ، المغروسة في حواضر فلسطين كالشرايين: يافا ، اللد ، الرملة ، القدس ، وبيت لحم. فتشم روائح الاعياد ، ومواسم الطبيعة ، وأعياد المسيحية العربية ، حين كانت تغني حول النار: «قشّه قشّه لليهودي» ، في رفضها للمشروع الصهيوني.
بحكايات الرجوع والعودة ، ورسائل الصليب الأحمر الدولي المختصرة ، تعيدك نهى بطشون الى لحظة الذهول الفلسطيني الاولى ، وما تلاها من ذهول عربي الى اليوم. وبشتات تفصيلي ، تقرأ نموذجاً للأسرة والعائلة الفلسطينية «المتمدنة» ، كيف أحالها المشروع الصهيوني الى خيوط معلقة في الهواء ، تذروها الريح أنّى شاءت المقادير ، بعد أن كانت نسيجاً متماسكاً يغطي الأرض العربية الفلسطينية ، بالخضرة والأسواق والعمران والخير العميم.
ليس من عادتي ان تغريني القصص الشخصية للأفراد ، لكن السيرة الذاتية للسيدة نهى بطشون ، التي تحكي قصة عائلة ، سرتني بأطيافها الملونة بألوان طبيعية ، وبما لحكاية الشعب الفلسطيني في نفسي من حضور عجيب. فأنا من جيل عربي ، أحالتني مقاديري الشخصية الى أن أكون لاجئاً من القدس الى عمان ، مع خيوط الضياء الاولى التي جاءت بعد الصباحات الاولى لنكسة حزيران في العام ,1967
كتاب راهبة بلادير خالْ من السياسة ، بمعناها التقليدي ، لكنه زاخر بها بمعناه ومضامينها الاجتماعية والانسانية. فالصديقة التي عرفتها زاهدة في هذه الدنيا ، منذ سنين ، رسمت في حكايتها ، البسيطة والموثقة ، لوحة انسانية اجتماعية. على رقعة عريضة من الارض العربية تشمل فلسطين والاردن ومصر وسوريا ولبنان ، بل واكثر من ذلك ، فقد أمعنت في تفاصيل اللوحة الاجتماعية ، لتشمل حواضر: الكرك والخليل ، السلط ونابلس ، القدس وعمان ، مادبا وبيت لحم ، دمشق وبيروت ، القاهرة والكرنك ، وغيرها الكثير الكثير. كتاب حميم ، ودافىء. أما صاحبته فتستحق أن نسميها «نهى العربية» ، وطوبى لرعايا مسيحنا العربي حين يحكون.