يوميات «برجوازي صغير»

لم أكن سعيداً بانتمائي إلى "البرجوزاية الصغيرة" ، فهي فئة حظيت بكثيرْ من اللعنات في "الأدب الماركسي واليساري" عموماً ، لذا سعيت مبكراً ، وأنا على مقعد الدراسة لـ"الانسلاخ" عن هذه الفئة ، والالتحاق بركب "البروليتاريا الرثّة" ، حيث التنظيم والالتصاق بوسائل الانتاج والعمل الجماعي ومستقبل البشرية جمعاء... ولمّا تعذّر علي أن أجد "البروليتاريا" ، في بلد أزيد من 98 من منشآته ، صغيرة ومتوسطة ، بحثت عن ورش لـ"طحن الملح وتعبئته في أكياس النايلون الصغيرة" أو تصنيع القوارير الزجاجية المزركشة بوسائل الصهر والنفخ البدائية ، إلى أن "تنفّخت" أنا شخصياً وتحرّقت أصابع يديّ ، وسال الدمع شديد الملوحة من عيني المتقرّحتين والمحترقتين بأتربة الملح وحرارة الأفران الملتهبة... قررت العودة إلى المدرسة ، بعد شهر من الغياب والتنقل بين الورش ، قررت العودة إلى مواقع "البرجوازية الصغيرة" ثانيةً ، وكان لي ما كان من "واسطات" أقنعت مدير "ثانوية حسن البرقاوي" بإعادتي إلى الصف في سنة "التوجيهي" شديدة الحساسية.
لم يكن مصطلح الطبقة الوسطى قد درج على ألستنا وفي أدبياتنا آنذاك ، ولم يكن المنتمون لهذه الفئة "المتذبذبة" بين تطلعها للالتحاق بركب البرجوازية الكبيرة أو خشيتها من الانسحاق إلى مصاف "البروجوازية الصغيرة" و"العاملين بأجر" وصغار الكسبة" إلى غير ما هنالك من تسميات... أقول لم يكن المنتمون لهذه الفئة ، يحظون بكل هذه المكانة التي نعطيها لهم هذه الأيام ، بوصفهم ركيزة الاستقرار ، ومعقد آمال مشروع الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي ، والسدود المنيعة في وجه رياح التطرف والغلو والأصولية ، العاتية.
وها أنا أسعد ، كغيري من زملاء تلك المرحلة ، باندراجنا اليوم في عداد "الطبقة الوسطى" ، والذي أخذ يصبح تعبيراً ملطّفاً عن البرجوازية الصغيرة ، أو شرائحها العليا ، إن جاز لنا أن نقسمها إلى شرائح وفئات... فنحن سدنة "المدنية" و"الحداثة" و"التحوّل الديمقراطي" ، نحن روافع الاستقرار والأمن والأمان ، ونحن "المصد" في وجه عاتيات الزمان.
أصدقكم القول أنني اختبرت منذ زمن "حكاية تذبذب البرجوازية الصغيرة" ، لكنني فقدت منذ زمن طويل "التطلع إلى الأعلى" ، للالتحاق بمصاف البرجوازية الكبيرة ، وإن كانت أحلاماً من هذا النوع قد داعبتني يوماً ، وأجدني اليوم ، مثقلاً بهاجس الخشية من "الهبوط إلى أسفل" ، إلى مصاف "البروليتاريا الرثة" و"صغار الكسبة" ، ليس لأنني أصبحت عرضة "للبطالة" و"قلة المروّة والإرادة" ، بل لأن متطلبات الحياة وغول الأسعار وشبح التضخم و"قوارض" الضرائب والجمارك والمبيعات ، باتت جميعها عوامل "تشدني" للأسفل ، بحبال متينة و"ثقّالات" شبيهة بمراسي السفن.
لم أعد ذاك "المستهلك" الذي لا يتوقف أمام الأسعار المثبّتة على بسطات الخضار والفواكه ، فقد ولّى الزمن الذي كنتَ تشتري فيه كل احتياجاتك منها بعشرة أو خمسة عشر ديناراً... ولم أعد ذاك "المتسوّق" الذي "يجر" خلفه عربتين مملوءتين بكل احتياجات المنزل من "السوبر ماركت" و"الجراند ستورز"... ولقد تخليت عن بعض "طقوسي العراقية" في شراء كميات "تجارية" من اللحوم والدواجن ، في كل مرة أصل فيها إلى "ملحمة" أو بائع دواجن "نتافات"... وتخليت كذلك عن زياراتي المنتظمة سوق الوحدات لشراء الأرانب والزغاليل... صرت مستهلكاً رشيداً وراشداً رغماً عن أنفي ، يحسب ألف حساب ، لكل "غرض" يلقى في عربة التسوق ، ويجري باستمرار عمليات الجمع والضرب والقسمة ، ويفاضل بين هذا المحل وذاك ، وبين هذه السلعة وتلك ، ليس من حيث الجودة فحسب ، بل ومن حيث الأسعار كذلك.
في كل مرة ، يجري فيها "تسعير" او اعادة تسعير المشتقات النفطية ، في كل مرة أقرأ على فواتير الماء قيمة الدعم الحكومي ، يزداد قلقي من "الانسلاخ" الاضطراري الذي يتهددني كما يتهدد شرائح بأكملها ، ومن ضمنها "الطبقة الوسطى" التي لم أستقر بها طويلاً ، ولم أدخلها من "طريق ذي اتجاه واحد" ، فالباب إلى هذه الفئة ، كما تعلمون ، من النوع الدوار ، يُدخًلك ويُخرًجك.(الدستور)