شكر لمن لا يستحقه!!

ثمة أشخاص مهما بلغت اساءاتهم لنا ولغيرنا يتوجب علينا أن نشكرهم ، لكن ليس على طريق اعطاء الخدّ الآخر لصفعه ، فالسيد المسيح بعد أن جرى للقدس والجليل والأحفاد ما جرى يوصي بضرب الخدّ المتغطرس مرتين.
هؤلاء الذين يستحقون الشكر رغم الاساءة أتاحوا لنا أن نعيد اكتشاف آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا ، اضافة الى أنفسنا ، فلولاهم لما تعرفنا على ما تبقى من بياض فينا وفي قلوبنا ، انهم السواء الذي يقاس عليه والضد الذي يُظهر حسن الضد ، ذلك لأنهم كانوا ذات يوم ضحايا التاريخ أو الطبقة لكنهم أصبحوا ضحايا أنفسهم بامتياز.
وبعد أن عرفوا الصواب والخطأ اختاروا الخطأ مع سبق الاصرار والتعمد لأنهم متورطون كالأفاعي بأكياس من السم في العنق ان لم يجدوا من يلدغونه يلدغون أنفسهم ، نشكرهم لأنهم أتاحوا لنا المقارنة مجدداً بين حال وآخر ، وبين تربية وأخرى ، قد يكونون من الأثرياء لكن لعابهم يسيل على عشرة قروش اذا ألقيت تحت أقدامهم ، وقد يكونون ذوي جاه لكنهم من الناحية الأخرى يتقنون حرفة الرقيق شرط ألا يراهم أحد كي لا يفسد عليهم الوهم،
وقد يكونون متعلمين ، لكنه العلم الموظف للشرور ، أو الذي سمي في أدبياتنا الاسلامية العلم الذي لا يُنتفع به، لهذا فالجاهل أبرأ وأرحم من هؤلاء ، لأنهم مثلاً يجيدون خلطة السم ، أو يزورون تقارير طبية عن سجناء يعذبون ، فالتعذيب كما قال ميشيل فوكو وهو الذي ألف كتاباً نادراً عن التعذيب في فرنسا كان بطله المسيو دوميان يتطلب من المشرفين عليه الرعاية الصحية للضحايا لأن الموت يحررهم من الألم لذلك يعالجون كي يتألموا ويصبح لتعذيبهم جدوى،
وقد لا يخطر في بال من يلدغون أقرب الناس اليهم وهو نائم مثلاً ، أن الملدوغ سوف يتلقح بهذا المصل ولن يموت به ما دام الشعار الخالد لذوي الارادة الباسلة هو كل ما لا يقتلني يقويني ، وتراثنا العربي يعج بالحكايات والأمثال عن هذه السلالة التي من أجلها وحدها قيل اتق شر من أحسنت اليه.. وهي سلالة تثير الشفقة أحياناً لأنها تجرب سهمها الأول في الرماية بمن علمها ، لكن السهم يرتد اليها لأنها لا تجيد التصويب الا على نفسها ، وهي إذ تتفاقم لديها الأنانية المجنونة والاثرة تمارس انتحاراً بطيئاً وهي آخر من يعلم،
لا نعرف بالضبط ما الذي سمعه هؤلاء من آبائهم وأمهاتهم وذويهم عندما كانوا أطفالاً لكننا نستطيع أن نتخيل.. وهنا أتذكر موقفاً لم يغادر الذاكرة منذ عشرين عاماً عندما شاهدت طفلاً يصرخ وهو يمسك بطرف رداء أمه ، لأنهما كانا بالقرب من محل للحلوى ، وكم كان حظي سيئاً عندما سمعت الأم تقول لابنها.. سأشتري لك ما تريد لكن اياك أن تخبر اخوتك..
انه تأهيل نموذجي للاخوة الأعداء ولصراع التوائم الذي يتجلى عربياً الآن في العديد من العواصم وغير العواصم،
ان من ربتت أمه على كتفه عندما عاد اليها من المدرسة متأبطاً حقيبة زميل سرقها لن يرويه ماء المحيط ، ولن تشبعه صوامع الحنطة وحظائر المواشي..
شكراً لهم.. لقد تلقحنا بهم ضدهم وأعدنا اكتشاف ما نسيناه وأهملناه،،(الدستور)