هذا التشدد في تمثيل الصحابة لا مبرر له

فيما ينهمك الكاتب والمفكر المبدع الدكتور وليد سيف في كتابة مسلسل عمر بن الخطاب بعد الاتفاق الذي تم بين التلفزيون القطري وفضائية إم بي سي ، تكاثرت الفتاوى التي تحرّم تمثيل الصحابة عليهم رضوان الله ، فيما سمعنا أن ثمة مسلسلا آخر يجري الإعداد له من قبل شركة إنتاج أخرى يحكي سيرة الإمامين الحسن والحسين عليهما رضوان الله ، وهو المسلسل الذي رآه البعض إشكاليا بسبب ما سيثيره من حساسيات في الأوساط الشيعية ، الأمر الذي قد يعزز المشاكل القائمة بين السنة والشيعة.
بعض دوائر الإفتاء السعودية (من بينها المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الأخيرة قبل أسابيع) ذهبت حد توسيع فتوى حرمة تمثيل الصحابة من دائرة العشرة المبشرين بالجنة ، إلى سائر الصحابة. حدث ذلك بينما كان التشدد في مسألة العشرة قد بدأ في التراجع في أوساط أخرى ، حيث أن الاتفاق الذي تم بخصوص مسلسل عمر بن الخطاب لم يكن ليتم لولا حصول منتجيه على فتوى بجواز ذلك ، أقله من الشيخ القرضاوي والشيخ سلمان العودة.
الشيخ قيس المبارك ، عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية كان له رأي آخر في المسألة ، حيث لم يرَ بأسا بتمثيل الصحابة بضوابط (جميع الصحابة كما فهم من الفتوى) ، مشيرا إلى أن القائلين بالحرمة لا يملكون دليلا على ذلك. واللافت أن الشيخ المبارك هو واحد من اثنين ، وربما ثلاثة ممن لا ينتمون إلى التيار السلفي (الحنبلي) في هيئة كبار العلماء ، حيث يُعرف عنه أنه من فقهاء المذهب المالكي ، وقد دخل الهيئة العام الماضي في سياق من توجه السلطة بتنويع المذاهب فيها.
والحق أن القائلين بالحرمة لا يملكون دليلا بالفعل كما ذهب الشيخ المبارك ، والأصل في الأشياء الإباحة ، ثم إن تمثيل الصحابة يمنحهم المزيد من التأثير في النفوس عندما يكون الأمر متقنا ، وإذا قيل إن ذلك قد يكون مناط إساءة في بعض الأحيان ، فإن الأمر لا يختلف عن الرواية التاريخية التي تتضمن الحسن والسيىء ، ومن قال إن آلاف الروايات التي تسيء لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما عند الشيعة قد أساءت لمنزلتهما العظيمة في نفوس عموم الأمة؟، وإذا كان تمثيل نبي الله يوسف عليه السلام في مسلسل (يوسف الصديق) الإيراني قد قدمه في أروع صورة باستثناء مبالغة المسلسل في قصة "زليخة" ، فإن الأمر لن يختلف في حال تمثيل أدوار كبار الصحابة ، مع أننا نتوقف في مسألة تمثيل أدوار الأنبياء ، مع قناعتنا بأن الإساءة ليست حتمية ، وتعتمد على الجهات التي تنتج العمل وتنفذه.
عندما يكتب مفكر ومبدع بوزن وليد سيف مسلسلا مثل عمر بن الخطاب ، ثم يخرجه فنان كبير بوزن حاتم علي (مخرج التغريبة الفلسطينية) ، فأية إساءة يمكن للعاقل أن يتخيلها في عمل كهذا؟ بل إنني أرجح أن العمل سيقدم الخليفة الثاني بصورة لا تقل جمالا ، بل ربما أجمل من تلك التي رسمتها النصوص المتاحة ، وينطبق ذلك على الصحابة الكبار أيضا ، بمن فيهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه والآخرون ، لا سيما أن العمل يتجاوز حياة الشخص إلى الظلال الإنسانية والحضارية للمرحلة برمتها.
ميزة هذه الأعمال أنها تجعل التاريخ في متناول الناس العاديين ، بمن فيهم الأجيال الجديدة التي تتراجع عندها عادة القراءة ، فكيف حين تضعه في سياق من الرؤية الحضارية والإنسانية التي تنطوي على معالجة لقضايا الحاضر أيضا. وقد تابعنا لوليد سيف شيئا من ذلك في سلسلته الأندلسية.
من المؤكد أننا سنعثر على بعض الغث في المعالجات الدرامية لسيرة الصحابة ، لكن السوق سيحكم عليها ، تماما كما سيحكم على المعالجات الدرامية الأخرى. وقد رأينا الفارق بين تنفيذ ذات نص النكبة الفلسطينية لوليد سيف ، وكيف وقعت معالجته في مسلسل "الدرب الطويل" ، مقابل معالجته في "التغريبة" ، ما يعني أن النص والإخراج يكملان بعضهما بعضا.
خلاصة القول ، إن التشدد في مسألة تمثيل الصحابة ليس في مكانه ، وقد وقع ذلك في فيلم الرسالة لعدد منهم ، مثل حمزة ، عم النبي عليه الصلاة والسلام وبطل بدر وأحد ، وعمار بن ياسر وبلال وسلمان ، ولم يقل عاقل أن ذلك قد انطوى على إساءة لأي منهم ، أو أن الممثل عبدالله غيث قد أصبح حمزة رضي الله عنه في وعي الناس كما يذهب البعض في سياق تبرير الرفض (لم نسمع أن الناس في الغرب قد تمسحوا بالممثل ميل غيبسون بعد تمثيله دور المسيح عليه السلام).(الدستور)