أسرع من الحرباء

بالامس شاهدت فضائية استدارت مئة وثمانين درجة بعد احداث تونس الاخيرة ورحيل الرئيس ، ففي الساعات التي سبقت الاعلان عن رحيل الرئيس زين العابدين كانت تقدم عينات من الشارع تهتف بحياة الزعيم الذي اعترف بالخطأ وتضليل الحاشية ، هذه الفضائية لا يهم ان نذكر اسمها او البلد الذي تبث منه ، فهي نموذج لنمط اعلامي عربي سريع التلون بل يميل مع الرياح حيث مالت ، ولا يأخذ في الحسبان مسألة الصدقية والثقة ، وكأن الناس كلهم مصابون بالزهايمر السياسي بحيث ينسون ما شاهدوه البارحة.
ذكرتني هذه الفضائية بصحفيين ومعلقين من العرب عشية حرب الخليج الثانية ، ومنهم من كان يسبح بحمد العراق ونفطه ورئيسه ثم قلب ظهر المجن بعد عشر ساعات فقط من صدور صحيفته او مقالته او تعليقه التلفزيوني.
هؤلاء ورثة الحطيئة وزمرته ممن كانوا يمدحون بثمن ثم يهجون من مدحوه عندما يتضاعف الثمن ، ولا ادري كيف يجرؤون على الاستخفاف بنا الى هذا الحدّ؟ ناسين ان للناس ذاكرة وان للصحف ارشيفات وان مهنة تهريب المحظورات لا تليق بهذا العمل الذي تناط به صياغة رأي عام.
متى يأتي ذلك الوقت الذي يقول فيه الشجاع وشاهد الحق كلمته في حضرة سلطان جائر وليس بعد خلعه او رحيله او موته؟
ما اسهل ان يتبع الاعلاميون الشارع ويرددوا صدى هتافاته ، لكن ما اصعب ان يسبقوه الى افتضاح النساء والخطايا بحق البلاد والعباد.
الاعلام ليس مجرد ظل او صدى ، انه مبادر ويجب ان تتوفر لدى المشتغلين في حقله الملغوم قدرة على الاستشراف والحدس المبني على استنتاج الحصيلة من المقدمات ، فما من حدث جسيم هو نبت شيطاني او معجزة مفاجئة ، وهم الاكثر ادعاء بمعرفة شعاب الواقع اكثر من غيرهم ، يبرهنون في كل مناسبة اختبار على أنهم مجرد صدى ، وانهم يمتطون الموجات ولا يترددون في قلب ظهر المجن لولي النعم حتى ما قبل ساعة واحدة،
أجزم بأن هذه الشعوب لفرط ما كابدت وتألمت ونزفت قد تلقحت ضد هذا النمط من التزوير والانتهازية ، فمن لا يقف معها وهي مسلوبة الارادة وجائعة ثم يصفق لها وهي تموت هو مجرد كائن طفيلي يعيش على الكوارث ويحول المأتم الى عرس.
حتى النخب السياسية والمعارضات تحولت الى توابع وأصداء للحراك العفوي للناس لأنها تفكر بغنائم الدولة البديلة أكثر مما تفكر بعذاب الناس وفقرهم ، وهذا ما يفسر لنا لماذا كان شهاب الدين على الدوام أردأ من أخيه كي لا نقول كلمة اخرى يعف عنها الذوق،
ان من كان مسبوقاً في كل شيء حتى من اطفال بلاده والناس الأميين فيها عليه ألا يتقدم الى واجهة المشهد عندما توزع الغنائم ، وليس من المسموح لأحد ان يكون مع الله والشيطان في آن واحد أو مع العصفور والثعبان تحت شجرة واحدة،،(الدستور)