أما من حلقة أخيرة في مسلسل الفضائح هذا؟

لم نفرغ بعد من "لملمة" تداعيات زلزال ويكيليكس ، حتى داهمتنا "قناة الجديد" اللبنانية ، بنشر مسلسل التحقيقات في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري ، وهو مسلسل فضائحي بامتياز ، يظهر -كما وثائق ويكيليكس- مستوى التهافت الذي بلغته بعض القيادات اللبنانية ، وها نحن أمس واليوم ، على موعد مع قناة الجزيرة القطرية ، في مسلسل فضائحي جديد ، لا يقل خطورة ودرامية ، عن سابقيه ، بل ويمكن القول أنه الأكثر إسفافاً وتفريطاً في تاريخ الكفاح الوطني المعاصر للشعب الفلسطيني.
لقد تبارى زعماء عرب وفقاً لـ"ويكيليكس" في إظهار آيات الولاء والتبعية للسياسة الأمريكية في المنطقة ، هذا يحرض على إيران ، وذاك يدعو لقطع رأس الأفعى ، وثالث يستعجل الضربة العسكرية "اليوم وليس غداً" ، ورابع يريد أن تشمل الضربة إيران وحلفاءها فتأخذهم جميعاً "أخذ عزيز مقتدر" ، إلى غير ما هناك من مظاهر التساوق مع خطط أشد المحافظين الجدد في واشنطن عداء للمنطقة وشعوبها وتاريخها.
في لبنان ، ووفقا لـ"قناة الجديد" ، فقد تبارى مسؤولون لبنانيون ، من فريق 14 آذار ، في التحريض على سوريا ، وفبركة شهداء الزور ، واستدراج العروض لاستئصال نظامها وحلفائها من المنطقة بمجملها ، لقد وضعوا أنفسهم ، وهم تحت القسم ، في موقع شهود الزور ، وكانوا نماذج سيئةً لقيادات "الزمن العربي الرديء" ، لقد نقلوا مشاجراتهم "الصبيانية" حتى مع حلفائهم وأصدقائهم إلى ساحات التحقيق الدولي ، وها هم الآن ، ومنذ تاريخ نشر ذاك "الغسيل الوسخ" ، يحاولون تدارك ما يمكن تداركه في علاقاتهم مع خصوهم وحلفائهم على حد سواء ، بمن في ذلك أولياء نعمهم.
اليوم ، نحن على موعد مع مسلسل فضائحي لا يقل تهافتاً وخطورة.. هذا يعرض على اليهود "أكبر أورشليم" في تاريخهم القديم والحديث ، وذاك "يقبل بضم كل مستوطنات القدس - ما عدا أبو غنيم - وثالث يتبرع بحي الشيخ جراح ، ورابع يرى في بقاء بعض مستوطنات القدس "مصلحة فلسطينية - إسرائيلية مشتركة - وخامس يعرض حلاً إبداعيا لمشكلة الحرم ، يتضمن التخلي عن السيادة الفلسطينية عليه لصالح لجنة أو هيئة أو جهاز دولي ، وسادس يعرض التخلي عن حق عودة اللاجئين مكتفياً بعودة "رمزية" ، وسابع وثامن وتاسع وعاشر والحبل على الجرار.
في "ويكيليس" ، بدا أن بعض القادة العرب يستسهلون الانقضاض على بعضهم الآخر أمام "الأجنبي" ، هذا ينتقد الدولة الجارة وذاك يحملها مسؤولية كسر الإجماع ضد طهران أو التخاذل في الحرب على الإرهاب.. وفي المسلسل الفضائحي اللبناني حصل شيء مشابه ، بدا أن الأصدقاء والحلفاء في العلن يكرهون بعضهم البعض في الخفاء ، وبدا أن من تربى على نعم الأشقاء الكبار لا يتورع عن طعنهم في ظهورهم خلسة و"خسّة".. وفي المسلسل الفضائحي الفلسطيني ، بدا أن المطلوب هو إقصاء الأردن ومصر والسعودية عن القدس والحرم ، بخلاف الحديث اليومي والمتكرر عن الروابط المتينة مع "الأشقاء" والتنسيق المستمر معهم ، لكأن التناقض الرئيس مع هؤلاء ، وليس مع الاحتلال الذي بدا المفاوض الفلسطيني أمامه ، شديد التهافت ، إلى الحد الذي باح فيه أحدهم بأنه يكاد يشهر بأنه "الصهيوني الأخير" ، وفقا لتعبيره هو بالذات.
ردة فعل القيادات العربية واللبنانية والفلسطينية في الحالات الثلاث واحدة ، تبدأ بالنفي والتكذيب ، وتمر بالتساؤل عن مغزى التوقيت ودلالة النشر غير المسؤول (لا توقيت مناسبا أبداً للشفافية عند العرب) ، ولا تنتهي بتحميل الوسيلة الإعلامية وزر "الأجندات الخفية" ، بل ولا نجد في تصريحات هؤلاء الزعماء أو الناطقين باسمهم ، أية غضاضة ، في اتهام هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك بالكذب والاجتزاء والتزوير ، إلى غير ما هنالك.. بل أن البعض منهم ، كما حصل بالأمس ، لا يتردد في إبداء الاستعداد لكشف كل الأوراق وفتح خزائن المعلومات على مصراعيها ، من دون أن يكلف نفسه عناء السؤال: لماذا لم يفعل ذلك من بعد ، ولماذا لم يفعل ذلك من بعد ، لماذا ظل التلويح بهذه الورقة ، حبرا على ورق.
نحن في زمن الفضائح ، التي سرعان ما تنقل "أقدس الأسرار" من الخزائن الحديدية والبرامج الالكترونية المشفّرة ، والغرف السوداء المظلمة ، إلى غرف نوم كل واحد منّا ، لم يعد بمقدور أحد أن يكذب علينا بعد ان دخلنا زمن الويكيليكس ، و"يا خبر بفلوس بكره يصبح ببلاش" ، وفقاً للمثل الشعبي المصري الدارج.
إن غضبة البعض حيال نشر هذه "الكنوز" أو بالأحرى "المخازي" ، تبدو كاريكاتيرية تماماً ، خصوصاً حين يقال أنها طعنة في الظهر يتلقاها المفاوض الفلسطيني وهو في ذورة الاشتباك مع إسرائيل والولايات المتحدة ، عن أي اشتباك يتحدث هؤلاء ، وعن أي مشروع وطني وأية ثوابت وطنية يتحدثون.
المؤسف حقاً أن ما نشرته قناة الجزيرة ، وربما حصلت عليه من مصادر قيادية فلسطينية - ليست نظيفة بدورها - قد أكد أسواء كوابيسنا ومخاوفنا ، وهو يحفزنا ويحفز غيرنا ، على المضي في نقد هذا الأداء المدمر للمشروع الوطني الفلسطيني ، وفضح المآلات الكارثيّة التي انتهى إليها نهج "المفاوضات حياة" ، وهي كارثية بالفعل ، ولا يقلل من كارثيتها قول الرئيس الفلسطيني أنه أطلع بقية القادة العرب على ما تقوم به السلطة أولاً باول ، فهذا ادعى لليقظة والقلق والاستنفار والاستنكار ، وبالأخص في هذه المرحلة التي تبدو فيها القضية الوطنية الفلسطينية مطروحة على جدول أعمال التصفية والشطب والتفريط.(الدستور)