"الجزيرة" والغسيل الوسخ

لم تكن القيادة الفلسطينية موفقة في الرد على ما تسرّب لفضائية الجزيرة من وثائق حول المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، لا بل اتسمت الردود بالنزق العالي. فالرئيس محمود عباس اتهم القناة القطرية بالتزوير والتحريف، وقال: "سنكشف كذبهم وتزويرهم في قناتهم نفسها". وياسر عبد ربه استفز إلى درجة أن كال الاتهامات لقطر، واعتبر الوثائق جزءاً من حملة على السلطة يقودها "ليبرمان–خنفر". وصائب عريقات هدد بتفجير قنبلة وفضح خبايا علاقات الجزيرة بإسرائيل من خلال وثائق يمتلكها.
مهنياً، ما قامت به الجزيرة يوصف بالخبطة الإعلامية، وحصولها على وثائق بهذا الحجم يسجل لها وليس عليها. كما أن الجزيرة تعاملت بمهنية، مستثمرة طاقاتها وإمكاناتها البشرية والتقنية أفضل استثمار، وليس صحيحاً أنه كان على القناة، قبل نشر هذه الوثائق، أن تحاور المعنيين الفلسطينيين، لأنها في ذلك تخسر السبق الصحافي.
ولا يكفي أن يأتي الرد الفلسطيني على هذه الوثائق بأنها "مجتزأة" و"أكاذيب وأنصاف حقائق"، أو "أن كل ما قمنا به من نشاطات يبلّغ به العرب بالتفاصيل". فإبلاغ العرب لا يقلل من المسؤولية، ولا يعفي القيادة الفلسطينية من مسؤولياتها بوضع شعبها أمام التفاصيل أولاً فأولاً، وتفنيد الحقائق والأكاذيب.
معظم ما عرضته الجزيرة حتى الآن لا يحتوي جديداً مثيراً من حيث الجوهر، إلا بالنسبة لبعض المسائل المتعلقة بالحرم، ونسبة تبادل الأراضي في القدس. فما بثته الجزيرة معروف بالإجمال من قبل المتابعين لمسيرة المفاوضات، ولكنّ كونه معروفاً لا يقلل من أهميته وخطورته. وهذا لا ينفي أن الوثائق خطرة فيما هو منسوب لفريق التفاوض الفلسطيني؛ خطرة بالوقائع والخرائط والتراجعات عن سياسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وفصائل منظمة التحرير بشأن: الحدود، الاستيطان، اللاجئين، وعن وثائق وبرامج الإجماع الوطني: إعلان القاهرة 2005، وثيقة الوفاق الوطني 2006، أعمال الحوار الشامل في القاهرة (شباط (فبراير)-آذار (مارس) 2009).
منذ إنشائها خرجت أصوات كثيرة تتهم قناة الجزيرة الفضائية بأنها تقوم بدور سلبي في التعاطي مع قضايا الأمة العربية، واتهمت بأنها تخضع في سياساتها للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وحركة الإخوان المسلمين، وأن همّها الأكبر ضرب كل الاتجاهات الوطنية العلمانية في العالم العربي، والتزمير والتطبيل للحركة الإسلامية وحركة الإخوان المسلمين بشكل خاص، لكن حتى الآن لم يثبت أحد بـ"الوثائق" أن "الجزيرة" تعمل ضد مصلحة الشعب الفلسطيني والأمة العربية، وتريد خدمة إسرائيل وشركائها في المنطقة.
صحيح أن قيادة منظمة التحرير والسلطة الوطنية حظيت بنصيب الأسد من محاولات التشهير والتشويه، خصوصاً في ظل الصراع بين المنظمة وحركة "حماس" التي تعود في أصولها ومرجعياتها إلى حركة "الإخوان المسلمين" الأم؛ فكل ما قام به مسؤولون في المنظمة منذ تأسيس الجزيرة وحتى يومنا هذا مشكوك بوطنيته واستقامته وشعبيته، وكل ما قامت به حركة حماس -حتى بانقلابها في غزة- مشروع ومقاومة وبطولة، وتصدٍّ للخونة والمستسلمين والمتخاذلين، بحسب الخطاب الإعلامي للجزيرة وضيوفها، لكن لا أحد ينكر أن "الجزيرة" أهم اختراع عربي خلال الأعوام المائة الماضية، بسلبياتها وإيجابياتها.
"الجزيرة" الآن ليست مؤسسة إعلامية فقط، تبحث عن المنافسة والتطور الإعلامي، بل أصبحت -وهي تحبذ ذلك كثيراً- طرفاً في اللعبة السياسية العربية.
انتقاماً من الجزيرة تقوم جماهير غاضبة بحرق سيارة البث التابعة لها في طرابلس، وتحطم استديوهاتها في رام الله، وترفع يافطات ضدها في عواصم كثيرة، وتغلق مكاتبها في الكويت وتونس والمغرب، وتفتعل القاهرة المشاكل معها، وتلعب بأعصاب عمان، وتقدم شهداء في بغداد، ومعتقلين في أفغانستان، وتقود الحرب في غزة.
يعتب كثيرون على الجزيرة لأنها تنشر غسيلنا العربي الوسخ، لكن السؤال هو: لماذا لدينا غسيل وسخ أصلاً؟!(الغد)