القاهرة إذ تضبط نبضنا وفقاً لتوقيتها المحلي

إيقاع الحركة في المنطقة برمتها ، مضبوط وفقاً للتوقيت المحلي لمدينة القاهرة وما حولها ، أو بالأحرى وفقاً لتوقيت ميدان التحرير وما ماثله من ميادين وساحات في مختلف المدن المصرية...لا شيء يتحرك غير الشوارع المنتفضة في "المحروسة"...لا شيء يتقدم أو يتراجع...كل الملفات مفتوحة عند الصفحة المؤرخة بتاريخ 25 يناير...وستبقى كذلك إلى أن تحسم "البهية" خياراتها وقراراتها.
لا أحد يتحدث عن عملية السلام...لا أحد يأتي على ذكر المفاوضات المعطلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين...لا أحد يسعى لاستئنافها...عباس يجري "جردة حساب" مطلع كل فجر ، يحصر خسائره ، فلا أرباح يجنيها من زلزال مصر وطوفانها...أمله الوحيد ، استلام النائب عمر سليمان الراية من مبارك ، ومن دون منغصات "الديمقراطية" وقيودها...حماس ترقب لحظة بلحظة تطور المشهد المصري ، لا تخفي ارتياحها ، وإن كانت صورة "النائب" تؤرّقها وتقض مضاجعها ، وهو الذي توعدها وتوعد رئيس مكتبها السياسي بالويل والثبور وعظائم الأمور ، وهو الذي زجّ باسمها في أحداث ميدان التحرير ، قسراً وبصورة فجّة.
نجيب ميقاتي ، رئيس الوزراء اللبناني المكلف ، تطالعه صور الأحداث وعناوينها ، في أثناء كل لقاء تشاوري يجريه مع هذا الفريق اللبناني أو ذاك الفريق الدولي ، الجميع يتحدثون بلكنة مصرية ، نعرفها جميعاً ونكاد نتقنها ، فقد عشنا معها لسنوات وعقود ، قبل أن تغزونا الدراما التركية ، وقبل أن تتقدم الدراما السورية على الدراما المصرية...حكومة لبنان ومصائر الصراع بين فرقائه المختصمين على كل شيء ، بانتظار معرفة اتجاهات هبوب الريح من ميدان التحرير.
لا أحد يدري ماذا يجري في العراق ، وكيف هي حال العلاقة بين المالكي وعلاوي ، فالأول: خفّض راتبه للنصف وقطع أغلظ الأيمان بانه لن يترشح لولاية ثالثة...شكراً لمصر وشبان ميدان التحرير...اليمن يغلي على "مرجل" الميدان الأشهر ، والرئيس يتعهد بعدم "تصفير العداد" والإصلاح الدستوري في الطريق ، ودائما يتعين علينا رد الفضل لأصحابه ، وأصحاب الفضل هم أولئك الفتية الذين خرجوا من كهفهم وآمنوا بوطنهم وبقدرتهم على بنائه بصورة أفضل.
إذن ، كل شيء مضبوط حسب التوقيت المحلي لمدينة القاهرة...لم يعد هناك عناوين مهمة غير تلك التي تأتي من ميدان التحرير...لا شيء يشغل صحفيي البيت الأبيض والخارجية الأمريكية 10و داوننع ستريت والإليزيه و"المستشارية" غير أنباء مصر وتطورات ثورتها الأعظم منذ سعد زغلول وجمال عبد الناصر...هنا يُصنع التاريخ...وفي شتى بقاع المنطقة والعالم ، تتردد أصداؤه.
من حسن حظنا أننا أبناء جيل عرف قيمة مصر وعاصر دورها المركزي والمُقرر في المنطقة...عاصر صوت العرب وخطابات عبد الناصر وحفلات أم كلثوم ، شهدنا حرب الاستنزاف وأكتوبر المجيد ، ورأينا التظاهرات المليونية في شوارع مصر تطالب عبد الناصر بالعودة عن قرار التنحي ، وهو الذي بادر إليه طواعية ، بخلاف ثاني خلفائه الذي يصر على البقاء جالساً فوق كرسيّه المهتز بصيحات ملايين الحناجر المطالبة بتنحيته ، ومن دون أن يرف له جفن.
الأجيال التي لحقت بنا ، لم تر لمصر سوى صورة الدور المتآكل والنظام الشائخ و"اليد الثقيلة" على ما تبقى من حركات تحرر ومقاومات في هذا المنطقة ، لم تر الاحتضان المصري الأخوي ، العميق والمكلف لابن بيلا وياسر عرفات ، قبل أن يُستبدلا بسمير جعجع ومحمد دحلان..لم تر سوى مصر المثقلة بقيود كامب ديفيد وأغلاله...لم تر سوى الطوارئ والتركة غير المشرّفة لزواج السلطة والثروة...ولم تأتها من أرض الكنانة سوى أنباء التمديد والتجديد والتوريث.
ها نحن أبناء مختلف الأجيال ، التي عايشت مصر في صعودها وهبوطها ، نتابع اليوم بكل شغف وترقب ، بل اهتمام وتحسب ، نضبط نبضات قلوبنا على إيقاع ثورة مصر ويقظة شعبها...فمصر خرجت من سباتها وقررت أن تضبط عقارب الساعة في المنطقة برمتها وفقاً لتوقيتها المحلي ، بعد أن تخاطفت مدن وعواصم هذا الحق الطبيعي والمكتسب ، وستعود الأمور إلى نصابها ، ونأمل أن يتم ذلك سريعاً وأن يتم بصورة كاملة.
نقول ذلك ، ونحن نعرف أن الصراع في مصر وعليها ، قد بلغ ذروة غير مسبوقة..وأن هناك معسكرا طويلا وعريضا ، يمتد من بقايا النظام القديم إلى واشنطن مرورا بعشرات المدن والعواصم ، يريد تجديد شباب النظام الشائخ وجمع شتاته وإعادة بعثه من داخله ، مقابل معسكر آخر ، يعبر شباب الميدان وشاباته عن قلبه وعقله وروحه ، يريد للتغير في مصر أن يتخطى الوجوه والأسماء ، إلى النظام والمواقع والمواقف والأدوار والتحالفات ، كان الله في عون "شبان التحرير" وهو يصنعون التاريح ويغيرون وجه المنطقة وصورتها.
(الدستور )