درس مصر البليغ والقاسي

تم نشره الأربعاء 16 شباط / فبراير 2011 01:43 صباحاً
درس مصر البليغ والقاسي
راكان المجالي


مُذهلة تلك الأحداث التي عاشتها القاهرة وحواضر مصر ومحلاتها الأخرى ، في أسابيعها الأخيرة ، ومآلاتها التي قادت إلى خلع الرئيس المصري ونائبه من سدّة الحكم. غير أنّ ما هو أشدّ من هذا إذهالاً وإدهاشاً هو الجانب الآخر من المشهد. فتلك الملايين ، التي تواتر خروجها المنظّم والمتحضّر ، إلى شوارع المدن المصرية العظيمة وما تزال ، لم تتمكّن من كسر سلسلة وتراتبية النظام القمعي ، الذي جثم بثقله وعتمته على صدور الناس لأكثر من أربعة عقود ، إلّا بعد نحوْ من ثلاثة أسابيع. فمشهد صمود النظام وبقائه ، وعلى الرغم من فظاظة التشبيه وقسوته ، لا يقلّ إدهاشاً وإثارة للأسئلة ، عن صمود المجاميع العُزّل ، في ميدان التحرير ومعظم ميادين مصر.

فالنظام المصري الذي سقط رأسه ، بعد استنفاده ، على المستوى الفردي والجماعي ، لكلّ مخزون القيم الإنساني والأخلاقي اللازم لأيّ حكم. فالسخرية والتهكم والاستهتار ، التي حفلت بها الشعارات واليافطات المرفوعة من المحتجّين المصريين ، كانت كافية لإفقاد أيّ حكمْ أو نظامْ أو فردْ هيبته ، ناهيكَ عن وقاحة ما تكشّف من ممارسات النظام في قمع المتظاهرين ، الخفية منها والمعلنة.

بالتأكيد ، ثمّة أسباب عميقة ومعقدة لذلك ، وعلى مستويات عدة. فعلى مستوى القوى والنخب ، المؤهّلة لتحويل طاقة تلك الجماهير الجبارة إلى مفاعيل مفيدة في التغيير والخلاص ، ها هي تكشف عن عجزها التاريخي ، بل انتهازيتها ، في أن تكون قيادة حقيقية للناس ، في لحظة كاشفة وبالغة الحساسية والأهمية في التاريخ العربي والإقليمي والعالمي. وربما كان ذلك واحداً من أسباب أزمة المنطقة المزمنة ، في خضوعها وهوانها الطويل نسبياً أمام أعدائها ، بما في ذلك النهب المنظّم لثرواتها ومقدراتها.

أما على مستوى النظام نفسه ، وأفراده وأدواته ووسائله ، فلمّا تتكشّف أسراره الدفينة بعد ، وإن بدأت بعض رذائله بالظهور الصادم حتى لأصحابه. بل لعلّ بعض رذائله ، التي تكشفت منذ اليوم الأول لثورة شباب مصر المجيدة ، هي في التقليد الغبي الخالي من أي ابتكار ، في قمع المتظاهرين ، ليس للنظام التونسي الذي لم يُخلع بالكامل بعد ، بل لممارسة السلطات الفرنسية في قمعها للإحتجاجات الطلابية الفرنسية قبل عقود طويلة،.

ففي شوارع الحي اللاتيني بباريس ، وقبل نحو ثلاثة وأربعين عاماً ، اقتلع الناس حجارة شوارع العاصمة ، في انتفاضة جارفة وعاصفة ، ضدّ أقوى زعيمْ فرنسي معاصر ، هو شارل ديغول. وفي إضرابْ واسع ، ضمّ نحواً من عشرة ملايين موظفْ فرنسي ، قاتل الطلبة الفرنسيون ضدّ قوات الشرطة. وتحوّلت ساحة السوربون.. وجوارها إلى منبر لإلقاء الخطابات الوطنية ، والتحريض على الثورة.

في تلك الانتفاضة ، كانت الحماسة والانفعال يسيطران على الجماهير ، غير أنها كانت جماهيرُ تشعر تماماً بما ترفضه وتعرفه ، وتدركُ أسباب غضبها ورفضها ، الذي أخرجها إلى الشوارع. كانت جموعّ تعرف وتدرك الأشياء كلها ، باستثناء الشيء الأهم وهو ما الذي تريده بالفعل ، أو قُل ما ينبغي فعله لتحقيق أهدافها وإرادتها. فتحولت في صفحات التاريخ إلى الثغرة الكبرى ، للانتفاضة الفرنسية الشهيرة.

ما فعله ديغول.. آنذاك ، هو إخراج قوات الشرطة والأمن ، من الحي اللاتيني الباريسي ، والإفساح في المجال للطلبة الثائرين ، كي يحتفلوا بحرية فوضاهم ، على هيئة غضب واحتجاج عاصفين. ومع مرور أيام التمرّد والعصيان ، تبدّدت طاقة الجماهير الفرنسية المنتفضة ، وتشرذمت في شوارع باريس العريضة ، إلى أن اختفت نسبياً ككتلْ متجمعة.

وبعدها ، بدأ تسريب الشائعات في باريس ، التي خسرت زخم طاقتها الدافعة خلال أيام قليلة ، عن انتشار قوات المظليين والمدرعات في أطراف باريس وضواحيها. وانقضّت قوات الحرس الجمهوري بوحشية ، على الحي اللاتيني وما جاوره من أحياء ، وطهّرت بعنف غير مسبوق بقايا العصيان فيها. وتمكّنت من إنهاء انتفاضة عارمة ، ظنّ كثيرّ من الفرنسيين وغيرهم أنها كانت ثورة.

لا شك في أنّ هناك اختلافا وفرقا ، بين الحالة الفرنسية وما يحدث في بلادنا ، وبالذات في كل من تونس ومصر وغيرهما. غير أن ما هو لافت ، في ممارسات السلطة وأجهزتها هناك ، أنها لم تغادر ما فعله ديغول قبل أكثر من أربعة عقود ، وبتقليدْ يخلو من أي إبداع سياسي ، بإستثناء العودة إلى بعض وسائل القتال القديمة ، في قمع الجماهير ، كالجًمال والخيول والبغال والحمير. وعلى الرغم من بهاءً وعظمة ما تحقّق حتى الآن ، وبالذات في الثورة المصرية ، التي تأخذ منحى مختلفاً بعد سقوط الرئيس مبارك ونائبه ، فإنّ مخاطر الفشل والنجاح لا تزال تُخيّم على كلّ شيء ، وتهدّد كلّ شيء. ولا تزال المحاولات لإجهاضها واحتوائها ، الداخلية منها والخارجية ، وبأية وسيلة ، قائمة على قدمْ وساق. ذلك أنّ ممانعات سقوط النظام الآن تتركّز على إبقاء النظام نفسه وآلياته ، مع بعض التغييرات الشكلية ، التي تصيب الأفراد وبعض القوانين ، وبعض الإصلاحات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية. فاقتلاع النظام في مصر من جذوره ، يعني أن لا بقاء لمنظومة الأنظمة المسيطرة والمهيمنة في المنطقة منذ عقود. وعلى من استكانوا إلى تأبيد ما هو قائم ، أن يتحسّسوا بطونهم ورؤوسهم في آن ، وأولهم كيان الدولة العبرية العتيد. وهذا بالضبط ما يخيف الأميركيين والصهاينة معاً ، لهذا يسعى الكثيرون الآن ، داخلياً وخارجيا ، إلى تزوير هدف الثورة المصرية وحرفه إلى: سقوط الرئيس وبقاء النظام ، بإعتبار أنّ هدف المحتجين تحقق بخلع الرئيس ، وكفى الله الجميع القتال. وهو ما يرفضه بشدّة المُمسًكون على جمرهم وجمرنا في ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر الأبية ، التي علّمت العالم كلّه درساً بليغاً وقاسياً ، في التحضّر والتغيير والحرية.

 
(الدستور)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات