درس مصر البليغ والقاسي

مُذهلة تلك الأحداث التي عاشتها القاهرة وحواضر مصر ومحلاتها الأخرى ، في أسابيعها الأخيرة ، ومآلاتها التي قادت إلى خلع الرئيس المصري ونائبه من سدّة الحكم. غير أنّ ما هو أشدّ من هذا إذهالاً وإدهاشاً هو الجانب الآخر من المشهد. فتلك الملايين ، التي تواتر خروجها المنظّم والمتحضّر ، إلى شوارع المدن المصرية العظيمة وما تزال ، لم تتمكّن من كسر سلسلة وتراتبية النظام القمعي ، الذي جثم بثقله وعتمته على صدور الناس لأكثر من أربعة عقود ، إلّا بعد نحوْ من ثلاثة أسابيع. فمشهد صمود النظام وبقائه ، وعلى الرغم من فظاظة التشبيه وقسوته ، لا يقلّ إدهاشاً وإثارة للأسئلة ، عن صمود المجاميع العُزّل ، في ميدان التحرير ومعظم ميادين مصر.
فالنظام المصري الذي سقط رأسه ، بعد استنفاده ، على المستوى الفردي والجماعي ، لكلّ مخزون القيم الإنساني والأخلاقي اللازم لأيّ حكم. فالسخرية والتهكم والاستهتار ، التي حفلت بها الشعارات واليافطات المرفوعة من المحتجّين المصريين ، كانت كافية لإفقاد أيّ حكمْ أو نظامْ أو فردْ هيبته ، ناهيكَ عن وقاحة ما تكشّف من ممارسات النظام في قمع المتظاهرين ، الخفية منها والمعلنة.
بالتأكيد ، ثمّة أسباب عميقة ومعقدة لذلك ، وعلى مستويات عدة. فعلى مستوى القوى والنخب ، المؤهّلة لتحويل طاقة تلك الجماهير الجبارة إلى مفاعيل مفيدة في التغيير والخلاص ، ها هي تكشف عن عجزها التاريخي ، بل انتهازيتها ، في أن تكون قيادة حقيقية للناس ، في لحظة كاشفة وبالغة الحساسية والأهمية في التاريخ العربي والإقليمي والعالمي. وربما كان ذلك واحداً من أسباب أزمة المنطقة المزمنة ، في خضوعها وهوانها الطويل نسبياً أمام أعدائها ، بما في ذلك النهب المنظّم لثرواتها ومقدراتها.
أما على مستوى النظام نفسه ، وأفراده وأدواته ووسائله ، فلمّا تتكشّف أسراره الدفينة بعد ، وإن بدأت بعض رذائله بالظهور الصادم حتى لأصحابه. بل لعلّ بعض رذائله ، التي تكشفت منذ اليوم الأول لثورة شباب مصر المجيدة ، هي في التقليد الغبي الخالي من أي ابتكار ، في قمع المتظاهرين ، ليس للنظام التونسي الذي لم يُخلع بالكامل بعد ، بل لممارسة السلطات الفرنسية في قمعها للإحتجاجات الطلابية الفرنسية قبل عقود طويلة،.
ففي شوارع الحي اللاتيني بباريس ، وقبل نحو ثلاثة وأربعين عاماً ، اقتلع الناس حجارة شوارع العاصمة ، في انتفاضة جارفة وعاصفة ، ضدّ أقوى زعيمْ فرنسي معاصر ، هو شارل ديغول. وفي إضرابْ واسع ، ضمّ نحواً من عشرة ملايين موظفْ فرنسي ، قاتل الطلبة الفرنسيون ضدّ قوات الشرطة. وتحوّلت ساحة السوربون.. وجوارها إلى منبر لإلقاء الخطابات الوطنية ، والتحريض على الثورة.
في تلك الانتفاضة ، كانت الحماسة والانفعال يسيطران على الجماهير ، غير أنها كانت جماهيرُ تشعر تماماً بما ترفضه وتعرفه ، وتدركُ أسباب غضبها ورفضها ، الذي أخرجها إلى الشوارع. كانت جموعّ تعرف وتدرك الأشياء كلها ، باستثناء الشيء الأهم وهو ما الذي تريده بالفعل ، أو قُل ما ينبغي فعله لتحقيق أهدافها وإرادتها. فتحولت في صفحات التاريخ إلى الثغرة الكبرى ، للانتفاضة الفرنسية الشهيرة.
ما فعله ديغول.. آنذاك ، هو إخراج قوات الشرطة والأمن ، من الحي اللاتيني الباريسي ، والإفساح في المجال للطلبة الثائرين ، كي يحتفلوا بحرية فوضاهم ، على هيئة غضب واحتجاج عاصفين. ومع مرور أيام التمرّد والعصيان ، تبدّدت طاقة الجماهير الفرنسية المنتفضة ، وتشرذمت في شوارع باريس العريضة ، إلى أن اختفت نسبياً ككتلْ متجمعة.
وبعدها ، بدأ تسريب الشائعات في باريس ، التي خسرت زخم طاقتها الدافعة خلال أيام قليلة ، عن انتشار قوات المظليين والمدرعات في أطراف باريس وضواحيها. وانقضّت قوات الحرس الجمهوري بوحشية ، على الحي اللاتيني وما جاوره من أحياء ، وطهّرت بعنف غير مسبوق بقايا العصيان فيها. وتمكّنت من إنهاء انتفاضة عارمة ، ظنّ كثيرّ من الفرنسيين وغيرهم أنها كانت ثورة.
لا شك في أنّ هناك اختلافا وفرقا ، بين الحالة الفرنسية وما يحدث في بلادنا ، وبالذات في كل من تونس ومصر وغيرهما. غير أن ما هو لافت ، في ممارسات السلطة وأجهزتها هناك ، أنها لم تغادر ما فعله ديغول قبل أكثر من أربعة عقود ، وبتقليدْ يخلو من أي إبداع سياسي ، بإستثناء العودة إلى بعض وسائل القتال القديمة ، في قمع الجماهير ، كالجًمال والخيول والبغال والحمير. وعلى الرغم من بهاءً وعظمة ما تحقّق حتى الآن ، وبالذات في الثورة المصرية ، التي تأخذ منحى مختلفاً بعد سقوط الرئيس مبارك ونائبه ، فإنّ مخاطر الفشل والنجاح لا تزال تُخيّم على كلّ شيء ، وتهدّد كلّ شيء. ولا تزال المحاولات لإجهاضها واحتوائها ، الداخلية منها والخارجية ، وبأية وسيلة ، قائمة على قدمْ وساق. ذلك أنّ ممانعات سقوط النظام الآن تتركّز على إبقاء النظام نفسه وآلياته ، مع بعض التغييرات الشكلية ، التي تصيب الأفراد وبعض القوانين ، وبعض الإصلاحات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية. فاقتلاع النظام في مصر من جذوره ، يعني أن لا بقاء لمنظومة الأنظمة المسيطرة والمهيمنة في المنطقة منذ عقود. وعلى من استكانوا إلى تأبيد ما هو قائم ، أن يتحسّسوا بطونهم ورؤوسهم في آن ، وأولهم كيان الدولة العبرية العتيد. وهذا بالضبط ما يخيف الأميركيين والصهاينة معاً ، لهذا يسعى الكثيرون الآن ، داخلياً وخارجيا ، إلى تزوير هدف الثورة المصرية وحرفه إلى: سقوط الرئيس وبقاء النظام ، بإعتبار أنّ هدف المحتجين تحقق بخلع الرئيس ، وكفى الله الجميع القتال. وهو ما يرفضه بشدّة المُمسًكون على جمرهم وجمرنا في ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر الأبية ، التي علّمت العالم كلّه درساً بليغاً وقاسياً ، في التحضّر والتغيير والحرية.
(الدستور)