النزاهة مسار لا مفر منه

لا يوجد لحظة افضل من تلك التي نعيشها اليوم لنؤسس عليها ثقافة جديدة عنوانها الرئيس الرقابة والمحاسبة لأي مرتبة من مرتبات الادارة من حولنا.
تلك الرقابة التي ظلت غائبة لعقود طويلة؛ إذ أفرز هذا الغياب مؤسسات لا يراقبها أحد، وبنوكا بادارات شبه معزولة عن محيطها، وقبل القطاع الخاص ثمة من يفعل ما يشاء في القطاع العام ولا يجد من يقول له: قف.
ثقافة رقابة لا خطوط حمراء فيها، تعزز من الحاكمية والنزاهة والادارة الكفؤة التي بقيت طرحا نظريا مقيدا بين دفتي كتاب او ورقة عمل ينساها المشاركون في المؤتمر قبل انتهاء اعماله.
ويجب ان تتكرس تلك الثقافة بوصفها رادعا قانونيا لكل من تسول له نفسه ان يعبث بمال عام او غير عام او ان يبني نسق الادارة على أسس الشللية والفساد والتمييز بين الموظفين وفقا لمنسوب النفاق في العبارات التي يطرب لسماعها المدير او المسؤول او رئيس مجلس الادارة.
اللصوصية التي كشفتها الصور لما هو موجود في قصور نظام الرئيس المخلوع بن علي من اموال ومغلفات ومجوهرات مسروقة تؤشر الى ان الاستبداد يترعرع في بيئة السكوت والخنوع، وأن أمده يطول كلما ظلت الرقابة مغمضة العينين.
ومئات البلايين التي ظهرت بعد ثلاث ثورات عربية في تونس ومصر وليبيا تعزز من فرضية ان اموال الشعوب منهوبة على نحو منظم.
ولعل الدرس المستفاد من تلك التجارب الماثلة امامنا ان الفترة المقبلة يجب ان تكون محكومة بالرقابة الفاعلة والحقيقية لا الشكلية والمفصلة لخدمة فرد او مؤسسة او نظام بعينه.
اشعرتني نتيجة استطلاع بريطاني جرى اخيرا بأن النزاهة فعل جماعي ويضم كل الفئات وان رأي الشارع مهم بل هو الاكثر اهمية، اذ اظهرت نتيجة الاستطلاع ان 99 % من البريطانيين يعتقدون ان رواتب رؤساء البنوك زائدة عن الحدود المعقولة، ومجرد طرح هذا السؤال على الجمهور فهو يعني ان الشارع البريطاني يحاسب اصحاب المصرفيين واداراتهم على رواتبهم العليا ويقارنها بما تحصل عليه باقي الوظائف والمهن.
للاسف، لدينا تغيب هذه الثقافة فليس ثمة من يحاسب رئيس البنك او المدير او المسؤول على رواتبه وامتيازاته، ولا فرق في بلادنا بين استباحة المال في القطاع العام او الخاص، ففي الطرفين تغيب الرقابة ويحل محلها شركات ومكاتب تدقيق ودواوين محاسبة ورقابة وبرلمان ومراقبة شركات وغيرها من المرجعيات التي لا تجرؤ على المساس بتلك الامتيازات او حتى التقليل منها.
ولعل الهيئات العامة التي "تناقش" الميزانيات السنوية ونفقات الادارة ومصاريفها، إضافة الى كافة نفقات الشركة والبنك تمر مرورا سريعا على البيانات والامتيازات من دون جلبة او اي مساءلة وسرعان ما ينفض الاجتماع، الذي لا يختلف الحال بالنسبة للمضمون سواء كان عقد الاجتماع ام لم يعقد.
المرحلة المقبلة يجب ان تبدأ بمحاسبة كل مسؤول ومدير ورئيس مؤسسة او شركة او بنك على كل سلوك يتصرفه تجاه الاخرين، ويترافق مع ذلك انظمة شفافة للنزاهة تقيد ايدي اللصوص وتعيد للمساهمين او المواطنين ما سرق منهم ذات فوضى.
والدرس الاهم من رياح التغيير التي تهب في الفضاء العربي ليس تغيير الاشخاص وانما مأسسة انماط سلوك جديدة تستند في اساسها على النظافة والنزاهة واحترام حقوق الغير وعدم التعدي عليها.
مكافحة الفساد ليست عنوانا عاما لا دلالة تحكمه، انه قيد يلتف حول يد كل من يتجرأ على النهب والسلب، حتى لو كان شابا وسيما يلبس بدلة باهظة الثمن وتخرج من أعرق جامعات الغرب.