صورتان لما حدث

ابتداء لا بد من الوقوف عند مغزى الاسماء الثلاثة لهذا الحدث: ميدان جمال عبدالناصر زعيم الامة وذاكرتها المجيدة, واسم المجموعة الشبابية التي بادرت لهذا النشاط الشجاع, أي 24 آذار, وهو الشهر المرتبط بذاكرة الاردنيين بثورة الشارع الاردني ضد كلوب البريطاني, وبمعركة الكرامة التي كرّست التلاحم الاردني الفلسطيني ضد العدو الصهيوني, اما الاسم الثالث وهو اسم الشهيد خيري جميل السعد اول شهداء الحراك الشعبي, الذي يعكس كما لاحظ الصديق الفنان, نصر الزعبي دلالات تبعث على التفاؤل والثقة بالمستقبل, الخير والجمال والسعد.
بعد ذلك تعالوا نتمعن في الحدث بصورتيه صورة الشباب والقوى المؤازرة من فعاليات ثقافية ونقابية ونسائية وشعبية وحزبية, والصورة الاخرى.
الصورة الاولى: شبان في مقتبل العمر من الخريجين الجدد او من طلاب الجامعات ولم يقتصروا على طيف واحد بل كانوا صورة مشرقة لكل المكونات الحضارية السياسية والاجتماعية للشعب الاردني: مستقلون ويساريون وقوميون واسلاميون, اردنيون وفلسطينيون لم تلوثهم القذارات الاقليمية المعروفة.
وعندما انهالت عليهم الحجارة والشتائم (انجاس وخلافها من مفردات الاناء الذي ينضح بما فيه) شكلوا سلسلة بشرية شجاعة وكلما سقط منهم شاب حل محله آخر ولم يرموا حجرا واحدا او تخرج منهم كلمة بذيئة واحدة متمسكين بشعارات محددة: تحولات ديمقراطية حقيقية, مكافحة الفساد, رفع يد الامن عن الحياة السياسية, ذلك ان ما حدث في جزء منه كان شكلا من صدام الثقافات والاخلاق: ثقافة واخلاق رفيعة حضارية مقابل صورة مريبة مدبرة بليل وبرسم التوظيف اللاحق الذي استهدف ويستهدف تسويق صورة همجية وموتورة لكتلة كاملة بقضها وقضيضها.
وعندما نتحدث عن هذا المشهد الحضاري لشباب 24 آذار ولادائهم الاخلاقي والشجاع في ميدان جمال عبدالناصر, علينا ان نتذكر دائما اضافة للشهيد خيري السعد ومئات المصابين كوكبة اخرى من ابطال هذا المشهد وهذا الميدان مثل الكاتب المبدع سعود قبيلات, رئيس رابطة الكتاب الاردنيين الذي نام في الميدان ولم يغادره لحظة واحدة, والجريح سلطان العجلوني, الذي امضى سنوات طويلة في سجون العدو الصهيوني والذي رماه البلطجية من سيارة الاذاعة الخاصة بالموقع وجروه الى مبنى محافظة العاصمة وانهالوا عليه بالضرب مما استدعى نقله الى المستشفى ومثله يوسف الخوالدة وفراس محادين وباسل البشابشة ومثنى غرايبة وغيرهم, وجميعهم كما تلاحظون خليط من الاسلاميين واليساريين والقوميين والمستقلين الذي يتحدرون من عائلات اردنية كريمة أين منها الخطاب الكريه للموتورين.
وفيما يخص العجلوني على وجه التحديد, لا نحب ان نسمع من يرد الاعتداء عليه وتحويله الى المحكمة وهو في المستشفى الى استحقاقات (اسرائيلية) بالنظر الى كونه اسيرا سابقا لدى العدو الذي اجبر على الافراج عنه وتسليمه للاردن بدلا من ادراج اسمه على القوائم التي يطالب بها حزب الله.
الصورة الثانية: صورة خطيرة للغاية فيما يخص الامن الوطني الاردني نفسه, فهناك من يريد ان يقدم صورة موتورة همجية للاردنيين مما يسرع في الاجندة الخارجية الامريكية والصهيونية لتصفية القضية الفلسطينية في الاردن, وهناك من يريد ان يصرف الانتباه عن الاصلاحات الدستورية والديمقراطية الحقيقية وعن مكافحة الفساد وتجويع الناس وهيمنة البنك الدولي ورجاله الى خطاب اقليمي يدمج الفقراء في خطاب الفاسدين المذعورين من دعوات الاصلاح.
وأيا كانت خلفية الموتورين الذين هاجموا الشبان بالدبش والحجارة واكملوا اعتداءاتهم بالعصي والاسلاك المجدولة خلال اقتحام الدرك لموقع الشبان, وسواء كانوا بلطجية محترفين ام كانوا مدفوعين من جهات محددة او تحت تأثير الاعلام الاقليمي, فقد قدموا فاتورة مجانية للاستحقاقات الدولية والاقليمية التي تعتقد ان الاردن بات قوسين او ادنى من التصفية النهائية, وان الصورة المشينة المخزية لهؤلاء الموتورين كارت بلانش لتمرير هذه الاستحقاقات.
وبالتأكيد فان فقرهم المعرفي ووعيهم السياسي المحدود لم يساعدهم على الادراك بان اصحاب الاجندة الخارجية والذين يهددون الاردن ليس شبان 24 آذار بل السياسات الحكومية نفسها منذ التوقيع على معاهدة وادي عربة مرورا بتفكيك الدولة والمجتمع وتسليمها لرجال البنك الدولي ومروجي مشروع البنيلوكس الاسرائيلي الذي يوفر الشروط الموضوعية لتمرير الترانسفير الناعم وتصفية القضية الفلسطينية في الاردن.(العرب اليوم)