مفاتيح ضائعة !!

في البداية، كانت فزاعة الغزو هي ما يتقاسم حالة الرعب مع فزاعة الاستبداد، وكان على العرب ان يفاضلوا بين أمرين كلاهما مر.. ثم جاء الأقنوم الثالث وهو الخشية من حروب أهلية أو ذريعة ادامة الاستقرار حتى لو كان استنقاعاً.
وما من حكم شمولي الا وأوهم الناس بأنه حارس الاستقرار، وضمانة الأمن والأمان معاً، وقد يكون هذا قابلا للنقاش، لكن وفق المنطق الاحتكاري للسلطة، فمن يملكون لعدة عقود المفاتيح كلها.. بأيديهم فتح الابواب واغلاقها، لكن رياحاً عاتية تهب على نحو مفاجىء وتخلع الابواب، حيث لا حاجة بعد ذلك الى المفاتيح.
لماذا على العرب دون غيرهم من سائر عباد الله أن يفاضلوا بين الاستبداد والغزو.. أو بين الاستقرار الآسن والخلخلة التي تعصف بالنسيج كله؟
وكيف تم رسم هذه التضاريس لعقل سياسي داجن، أو من الاركان لمن يفكر نيابة عنه ويتخيل نيابة عنه..؟
وقد يبدو كمن يغرد خارج السرب كي لا نقول شاة سوداء في القطيع من يعود الى ما هو أبعد وأعمق لمكونات العربي المعاصر بدءاً من مرجعيات ثقافية ومعرفية وتربوية لأن الاعلام يشعر بضيق النفس والغثيان اذا وجد بجانبه مقتربات اخرى اكثر عمقاً وأقل اقتناعاً بما ينتأ من جبال الجليد الغاطسة في الماء أو الكثبان الغاطسة في الصحراء!
لماذا لا تروق لنا القراءات والمعالجات التي تذهب الى الجذور؟ وتبدو ثقيلة الدم وبليدة قياساً الى خفة المعالجات الاعلامية الأفقية وسطحيتها..؟
رغم ان جذر البلاء في واقعنا العربي تربوي وثقافي، واذا كانت بعض المعارضات حملت الجرثومة ذاتها التي عانت منها النظم، فذلك لأن الثقافة هي ذاتها والرحم الاجتماعي هو ذاته أيضاً..
وما كتبه اخصائيون من العرب في علمي النفس والاجتماع خلال العقود الماضية يعفيهم من تهمة التقصير، وينقل هذه التهمة الى المرسل اليه من قراء لا تجتذبهم التحليلات العميقة، ويفضلون حبة الاسبرين على عملية جراحية لأنهم يميلون الى الحلول المؤقتة.
ما قاله هؤلاء بدءاً من حامد عمار وصادق العظم وعلي الوردي وعلي زيعور وسيد ياسين وآخرون ينتهي الى توصيف موضوعي لهذه التربويات التي ترسخ مفاهيم الاحتكار والفهلوة والاقصاء. وحين حاول هؤلاء أو بعضهم البحث عن الاسباب الاجتماعية العميقة لهزيمة حزيران 1967 سخر منهم البعض لأنهم ذهبوا بعيداً عن السياسة وعناوينها المضللة رغم ان الحقيقة هي في ما ذهبوا اليه وهو الاساليب التي تربينا عليها ولم نُفطم عنها بعد!
ولو كانت الجذور معافاة وغير مبتلاة بالتسوس والشوائب التي تقضمها لما كان الحال على ما هو عليه، فلا النظم كانت بهذا الانكفاء ولا المعارضات كانت بهذه البلبلة.
ألم يكن منطق الاجتثاث الذي بدأ في العراق ثم سرت عدواه في التضاريس العربية كلها تعبيراً عن ثقافة ثنائية تقترح النبذ والاقصاء المتبادلين حواراً آخر مدججاً بالاسلحة لا باللغة والمفاهيم..
ان معالجة الظواهر بما كانت هي الداء منطق شمشوني، قد لا يسلم من متوالية على امتداد التاريخ حتى هؤلاء الذين يتوهمون بأنهم الاستثناء الخالد، وأنهم ينعمون بالمعصومية..
ان ما يتطلبه جسدنا العربي بعد أن غطته البثور المتقيحة هو فحص دم!!(الدستور)