في غياب «الزعيم الديمقراطي»

نجحت "ثورات الاستقلال والتحرر الوطني" التي اندلعت في عدد من الأقطار العربية في أواسط القرن الفائت في إنجاب جملة من القادة والزعماء الوطنيين العرب، الذين ملأوا الأرض والفضاء، وهتفت بأسمائهم ملايين الحناجر العربية، على الرغم من كل ما قيل أو يمكن أن يقال بشأن التجربة الخاصة بكل دولة وزعيم، من جمال عبد الناصر إلى ياسر عرفات، مروراً بأحمد بن بلا، وغيرهم كثير.
لكن "ثورات الاستقلال الثاني" أو "ثورات الحرية والديمقراطية" التي تندلع الآن في عالمنا العربي، لم تفلح حتى الآن في إنجاب "قادة وزعماء ديمقراطيين"...لم يلتقط أي حاكم عربي اللحظة التاريخية لولوج عالم الريادة والقيادة والزعامة...لم تنجب الشوراع شخصيات "كارزيمية" ترتبط هذه التحوّلات التاريخية الكبرى باسمها أو أسمائها...الشعب هو الزعيم، الشارع هو الزعيم، والميادين و"الدواوير" و"الساحات" هي التي استحوذت على الأضواء وصدارة نشرات الأخبار ومقدماتها، وليس الأشخاص أو مشاريع الزعماء.
عندما أصبحنا بحاجة لزعماء وقادة كارزيميين وتاريخيين، لم نعد نجدهم...لا أحد لديه جواب لأسئلة من نوع: من هو البديل الأنسب لعلي عبد الله صالح أو معمر القذافي، وقبلها لحسني مبارك وزين العابدين بن علي...لا أحد لديه إجابة على سؤال البديل في كل عاصمة عربية، مع أنك تتلقى مثل هذه الأسئلة بصورة يومية، ومنذ زمن بعيد...ثمة فقر في الزعامات الديمقراطية على المستوى الوطني، ليس لدينا نيلسون مانديلا ليقود هذه التحوّلات، ولا حتى ليخ فاليسا وتجربة "جدانسك" و"التضامن" في بولندا الخارجة من رحم الشيوعية.
مع أن بعض الزعماء العرب الذين أطيح بهم، أو الذي ينتظرون، وما بدّلوا تبديلا، كان بمقدورهم، بعضهم على الأقل، وبقليل من سعة الأفق وبعد البصر وعمق البصيرة، أن يكونوا هؤلاء الزعماء الديمقراطيين التاريخيين...مبارك وبن علي من قبل، صالح والقذافي من بعد، ضيّعوا هذه الفرص التاريخية النادرة...وأخشى ما أخشاه أن قادة عرب آخرين هم في طريقهم إلى إضاعة فرصهم ومصادرة فرص شعوبهم في الانتقال السلمي الهادئ إلى ضفاف الحرية والكرامة والديمقراطية.
ليست كل الدول العربية مرشحة لانتقال سلمي وسلس إلى فضاء الحرية...وليست كل النظم العربية لديها الأهلية والقابلية للعيش والتعاش مع إصلاحات سياسية جوهرية ونظام سياسي ديمقراطي...هناك دول يتماهى فيها تغيير السياسات مع تغيير النظام...وهناك دول سيقود الإصلاح السياسي فيها إلى كنس أنظمتها...وقلة قليلة من هذه الدول التي يمكن للنظم فيها أن تعيش وتتعايش مع التحوًل المنشود، إن هي تصرفت بشكل صحيح وفي التوقيت المناسب.
أخشى أن الوضع في سوريا قد بدأ يفلت من زمام السيطرة والمبادرة...وأن فرص الانتقال السلس والسلمي إلى ضفاف الحرية والديمقراطية قد باتت وراء ظهورنا...أخشى أن الفرصة قد أفلتت من بين يدي النظام السوري...مع أنه وبحكم موقعه "الممانع" في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، كان بمقدوره أن يقود "التحوّلات" في بلاده، وأن يوفر نموذجاً لزعامة وطنية /ديمقراطية، لم تتوفر مقوماتها، لكثير من الزعماء العرب.
مشكلة القادة العرب أنهم لم يدركوا بعد أن لعبة تقطيع الوقت لن تجدي نفعاً بعد الآن، وأن الرهان على يأس الشارع وإحباطه، لن تكون له من نتيجة سوى رفع سقف مطالبات المحتجين والمنتفضين في الشوارع والميادين، وأن سقوط الضحايا وإسالة الدماء، لن تكون لهما من نتيجة سوى تسريع لحظة رحيل النظام، فقد ولّى الزمن الذي كان فيه بمقدور الحاكم، أن يحيل حياة شعبه إلى جحيم لا يطاق من دون أن يخشى في ذلك لومة لائم.. لقد ولّى ذلك الزمن إلى الأبد.( الدستور)