البحث عن بوصلة!!
مهما قيل عن الحراك العربي الآن، فهو سلسلة من انفجارات لمكبوت مؤجل، لكن من يختزلون هذا المكبوت في السياسة وحدها يخطئون، لأن الكبت لم يكن سياسيا فقط، وربما كانت السياسة في آخر قائمة المكبوتات النفسية والاجتماعية والجسدية وحين يندلع المكبوت بمختلف درجاته وانماطه يصعب ان تكون هناك بوصلة محكمة ودقيقة في تحديد الجهات لهذا هناك ثورات في التاريخ اكلت ابناءها ومنها من استطالت انيابها فأكلت الاحفاد أيضا، وعبارة مأثورة كالتي تقول كم من الجرائم ارتكبت باسم الحرية! لا يوازيها الان الا جرائم اخرى يمكن ارتكابها باسم الديمقراطية.
لقد تأخر العرب كثيرا عن موعد الحراك الاجتماعي اولا، وعن مراجعة ما تراكم وتفاقم في باطن مجتمعاتهم من العطن وحالات الاستنقاع وهم يتحملون بالضرورة قسطا من عبء هذه المديونيات التاريخية، فالصامت متواطئ بشكل او بآخر. ومن كانوا يرددون ان الارض واقفة وليست كروية ولا تدور تحولوا في اربع وعشرين ساعة الى غاليليو وجوتارنو برنو ومن ساهموا في صياغة اردأ القوانين العرفية هبط عليهم الوحي ذات ظهيرة فاصبحوا ينافسون حمورابي وجان جاك روسو وحتى جان دارك.
إن ما يحدث في وطننا العربي يخصنا جميعا وليس هناك من يملك الحق لاحتكار أي شيء ما دامت هذه الجغرافيا هي قدرنا وقدر أحفادنا وأحفاد أحفادنا! واختزال ما يجري في اية شريحة عمرية او اجتماعية به اخلال شديد بالحقائق فهذه الشعوب بشيبها وشبانها وذكورها واناثها كابدت وعبدت الطرق بعرقها ودمها ودموعها طيلة قرون وليس عقود فقط، وحين ينسب هذا الحراك الى الشباب وادواتهم التكنولوجية في الاتصال فقط فان معنى ذلك انهم ليسوا ابناء لاباء وامهات وذوي قربى واساتذة علموهم منذ الابتدائية حتى الجامعة، وكتب قرأوها بدءا من طباع الاستبداد للكواكبي حتى اخر ما صدر في عواصم العرب من دراسات وابحاث واستقصاءات تستقرئ الواقع وتكشف الغاطس منه في العالم السفلي المسكوت عنه!.
ما يحدث ليس مباريات في ميادين وساحات بحيث يتحول المثقف والعامل والمهني الى متفرجين فقط، يصفقون لهذا الفريق او ذاك تبعا لعدد الاهداف.
ما يجري تحت اقدامنا ليس سطح المشهد فقط واذا كان المقصود هو تفكيك دول او تقسيمها او زجها بالجملة الى جحيم الفوضى فذلك امر اخر، وله مقاربات مغايرة لهذه المعالجات الانفعالية.
التغيير مطلب قومي وانساني بعدة امتيازات، شرط ان يكون جذريا وبدءا من تربويات وثقافات افرزت كل ما نحن فيه، وما يقال او يبدو بأنه الفساد كله ليس مجرد ثآليل او تقيحات على سطح الجلد، نشفى منها بمجرد ان تجرى لها جراحة موضعية، فالمرض في الدم ذاته، وفي ضعف الكريات البيضاء التي فقدت الكثير من قدرتها على المناعة وتكسرت صفائحها.
لقد اسقط العرب المعاصرون انظمة قبل عقود طويلة، وصفقوا لأنظمة ورثتها ثم اعادوا الكرة وسيعيدونها على الدوام، لان ما يطرح الان تسطو فيه الشخصنة على المفاهيم! ومن حق كل عربي سواء كان مثقفا او مزارعا او تاجرا او حتى عاطلا عن العمل ان يبدي رأيه بحرية فيما يحدث، شرط ألا تواصل ثقافة التخوين المتبادل وادبيات داحس والغبراء والبسوس سطوتها علينا جميعا بحيث نطالب بشكل حاسم بان نكون هنا او هناك.. فالوطن لنا جميعا والمستقبل يخصنا بالتساوي وعلينا ان نضيف الى الشعارات السائدة الان شعارات تقول: نريد اسقاط الاحتكار!.(الدستور)